أظهرت الحضارة الإسلامية في جانبها العلمي عدداً كبيراً من الموهوبين في فن واحد من فنون العلم، فقرأنا في صفحاتها عن الفقيه العارف، والمحدِّث الحافظ، والمفسِّر المتقن. وعرفنا أيضاً الأديب الناثر، والشاعر المجيد، والمؤرخ النابه. وأمدتنا بإنجازات الطبيب البارع، والصيدلاني الماهر. وكل أولئك وغيرهم، قد أسهموا في إغناء الحضارة الإسلامية وإثراء محتوياتها بما قدموه من ثمرات أفكارهم، وخلاصة تجاربهم من خلال الحقل العلمي الذي اشتغلوا فيه. غير أن هناك نماذج متميزة في الحضارة الإسلامية، اتسمت معارفها بالشمول والتنوع، واتسعت اهتماماتها العلمية لأكثر من فن علمي واحد. لقد مزجت بين علوم متباعدة، فتقاربت عناصرها المشتركة. ولم يكن المحصول العلمي الذي أدركه أمثال هؤلاء من العلماء مجرد معرفة أفقية، أو إلمامة عامة في كل فن أخذوا منه بطرف، كلا! وإنما كانت خبراتهم في العلوم التي اشتغلوا فيها، عميقة ومتجذرة، وشاهد ذلك أنهم صنفوا مؤلفات في تخصصهم الشامل، وقدموا فيه خبرات علمية استفاد منها من لحق بهم من بعد، من أهل العلم. ويعد أبو العباس بن الرومية الإشبيلي أنموذجاً مناسباً لأولئك العلماء الذين أحسنوا وأجادوا في حقول علمية متنوعة. فقد جمع بين التفوق في دراساته الشرعية من فقه وحديث ونحوهما، والمهارة والنبوغ في دراساته التجريبية عن النباتات والأعشاب وخواصها، وكيفية استحضار الأدوية منها، وكذلك الدقة والإتقان في ممارسته للطب والعلاج والتداوي. ولد أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي الخليل مفرج الأموي، المعروف بابن الرومية في مدينة إشبيلية الواقعة على نهر الوادي الكبير إلى الغرب من قرطبة، وذلك في عام 561هـ - 1165م، وقيل في محرم من سنة 567هـ، وبها ترعرع ونشأ في بيئة علمية اشتغلت بالطب بحثاً وتدريساً وعملاً، إذ ورث أبوه الطب من جده الأعلى، والذي كان أيضاً يحسن النظر في علم النباتات وخواصها. كما ورث صاحبنا بدوره هذه المهنة من أبيه، وأبدى استعداداً ذهنياً للانفتاح على مزيد من العلوم الشائعة في عصره، إذ تكشف الاهتمامات العلمية المتنوعة التي برز فيها ابن الرومية عن جهد تعليمي مضن بذله الرجل في تحصيل تلك المعارف، فمن الواضح أنه أنفق أعواماً من عمره في السماع والتقييد والإتقان، فاتسعت معارفه وتعددت مناهله، حتى إن هويته العلمية توشك أن تلتبس على قارئ سيرته، فلا يكاد يتبين ما إذا كان الرجل فقيهاً نبيلاً، أم أديباً مجيداً، أم عشّاباً متقناً لوصف الأدوية وتركيبها. ففي كل هذه الفنون أجاد ابن الرومية وأحسن، وشارك وألَّف، فترك مصنفات علمية في كل حقل منها، تدل على غزارة علمه وعلو كعبه فيها. درس ابن الرومية فقه الإمام مالك مستفيداً من تمكن صديقه أبي الحسين محمد بن زرقون في الفقه المالكي. ثم أبدى عناية كبيرة بفقه الإمام ابن حزم الظاهري ومال إليه وتعمق في مسائله، إلى درجة وصف بها بـ (التعصب)، بل إنه حمل لقب (الحَزمي) نسبة إلى ابن حزم، لشدة عنايته بآراء ابن حزم واحتفائه بها. والحق أننا لا نعرف في شخصية ابن الرومية ما يوحي بتمسك الرجل بآرائه إلى حد التعصب، إذ كان الرجل موصوفاً بدينه المتين وخلقه الكريم وصلاحه وورعه. ولكن يبدو أن اهتمامه الشديد بمؤلفات أبي محمد بن حزم الظاهري، واستنساخها وإنفاق الأموال الطائلة لنشرها وإظهارها للناس، حتى استوعبها كاملة ولم يشذ عنه منها إلا النادر اليسير، كل ذلك أوجد مجالاً لنبزه بالتعصب. امتدت دراساته الشرعية إلى طلب الحديث، فشهد له العلماء بالبصر بالحديث ورجاله، ووصفوه بقوة حفظه لتواريخ المحدثين، وأنسابهم، وموالدهم، ووفياتهم، وكل ما يتعلق بشؤون حياتهم العامة، حتى إن الإمام الذهبي أطلق عليه لقب (الحافظ الناقد). وهذا الفن العلمي هو ما يمكن تسميته بـ (علم معاجم الرجال) وهو البوابة الأولى لدراسات الحديث وتمييز رواته. ولقد ضرب ابن الرومية في الأدب بسهم وافر، إذ كان أيضاً محباً للشعر متذوقاً له، بل ومشاركاً في النظم بمقطوعات مستحسنة، استجادها الأدباء فدوَّنوها، رغم أن الرجل كان يواري موهبته الشعرية، ولا يحب أن يُعرف بها، إلا لدى الخاصة من المقرّبين حوله الذين رووا عنه بعض المقطوعات الشعرية، فتناقلوها وقيَّدوها. ثمة علوم أخرى، نالت عناية كبيرة من ابن الرومية، كالطب، إذ كان الرجل محققاً للأمور الطبية، ولا غرو؛ فقد سبق القول إلى أن هذا العلم يوشك أن يكون ميراثاً عائلياً لأسرة ابن الرومية على مدى ثلاثة أجيال أو أزيد. وكان الناس يتوافدون على ابن الرومية للعلاج، ثقة منهم بعلمه وأمانته. توارثت العائلة هذا العلم فيما بينها واختصوا به واشتهروا في أوساط المجتمع. تطلّب اهتمامه بالطب أن ينظر في الأدوية ووصف تراكيبها وطرق تحضيرها، فتمكن من تمييز النباتات والحشائش، وصفاتها، ومنافعها، وأضرارها، ومنابتها. حتى وصفه ابن أبي أصيبعة بأنه (قد أتقن علم النبات ومعرفة أشخاص الأدوية وقواها ومنافعها واختلاف أوصافها وتباين مواطنها). ووصفه (ابن الأبار) بأنه كانت: (له معرفة بالنبات وتمييز العشب وتحليته فاق فيها أهل عصره). لقد كان يتجول في أرض الأندلس محققاً لنباتاتها، مفتشاً عنها، ولقد زار غرناطة فذهب يبحث في جبالها عن عيون النبات. ولا غرو أن يصفه ابن الخطيب بأنه (أحد خزائن الأدوية). ويظهر أنه انصرف عن ممارسة الطب وتعمق كثيراً في دراسة النباتات والحشائش، فعُرف بإمام أهل المغرب في تحديد النبات، إذ كانت مهارته فائقة في تمييز الأعشاب على اختلاف منابتها، بل وتحليلها (أي رسمها وتحديد مكوناتها وأسمائها). واسترعى نظر ابن الخطيب قدرة ابن الرومية على الجمع بين علمي الحديث والنبات، وتفوقه فيهما، فانتهى إلى أن ذلك تهيأ له لوجود عوامل مشتركة بين الصنعتين، فتحصيل موادهما يعتمد أساساً على الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات اللفظية. ثم وصف ابن الخطيب هذا المزج المدهش لابن الرومية بين علمي الحديث والنبات، بأن كلاً منهما يُعنى بالحفظ: (حفظ الأديان وحفظ الأبدان). اتخذ ابن الرومية لنفسه دكاناً لبيع الحشائش والنباتات الطبية والاتّجار بها، فأضاف إلى الخبرات العلمية بُعداً جديداً، مثلما أضاف إلى دراسة علم النبات رؤى جديدة. وقد ألمعت مصادرنا إلى طرف من مهارته الفائقة في تمييز النباتات ومعرفة منابتها، وخواصها الطبية، فقد سأله سائل عن نبات (قصب الذريرة) وعن قيمته العلاجية واشتكى إلى أن هذا النوع من النبات يرد ذكره كثيراً في كتب الطب القديمة، غير أنه لا يكاد يُعرف الآن. فبادر ابن الرومية إلى الإيضاح بأن هذا النبات لا يزال موجوداً وبكثرة، ولكن في منطقة الأهواز. وتلك الدقة العلمية في النباتات وخواصها وتركيب الأدوية، سوّغت للذهبي وصفه بأنه كان (محترفاً بالصيدلة). كان ابن الرومية يمارس نشاطه العلمي حتى في أوقات طلبه الرزق والاكتساب، ففي دكانه في إشبيلية، والذي خصصه لبيع النباتات والأعشاب، كان ينسخ ويُقرئ ويُعلّم، وقد رآه ابن الأبار على هذه الصفة أكثر من مرة، حتى إن أبا عبدالله محمد بن يوسف بن هود، سلطان الأندلس وقتئذ (526 – 635هـ) مرّ به فألقى عليه التحية، فردها ابن الرومية بمثلها، ولم يزد على ذلك! واشتغل بالنسخ ولم يرفع رأسه إلى الأمير ثانية، في حين كان ابن هود ينتظره لبعض الوقت، حتى إذا طال عليه الانتظار ساق فرسه ومضى. لقد اتسع النهم العلمي لدى النباتي ابن الرومية، فقرر الرحلة إلى بلدان المشرق الإسلامي لزيادة معارفه في فنه العلمي. ورغم أن الرحلة العلمية من المغرب إلى المشرق الإسلامي كانت تعد يومئذ من مكونات الشخصية العلمية لطالب العلم، إذ لا مندوحة عن الاتصال بأهل العلم في المشرق الإسلامي وملاحظة الحركة العلمية في تلك الأقطار؛ إلا أن ابن الرومية حين أزمع الرحيل لم يكن مغموراً في مكانته العلمية ولا مطموساً في هويته؛ بل كان وقتذاك عَلَماً يُشار إليه بالبنان، تتهاداه الملوك، وتتلقفه حِلَق العلم. وشاهد ذلك أن رحلته المشرقية التي قام بها سنة 216هـ، كانت بغرض قضاء فريضة الحج في المقام الأول، إذ ما إن حلّ بثغر الإسكندرية قادماً من الأندلس حتى أرسل في طلبه السلطان الأيوبي العادل أبو بكر بن أيوب (597 – 615هـ) مستدعياً له لما بلغه من فضله وجودة معرفته بالنبات، متمنياً عليه الإقامة الدائمة عنده في القاهرة، باذلاً له في سبيل العطاء الجزيل والمال الجليل والجرايات الدائمة، فأقام عنده مدّة، أنجز خلالها بعض الأعمال كقيامه بجمع وتركيب الترياق الكبير، ثم اعتذر للسلطان الأيوبي مبدياً له الرغبة في العودة إلى موطنه في إشبيلية، متعللاً أنه إنما جاء للحج ثم العودة إلى وطنه في إشبيلية. لقد كانت رحلة علمية فريدة من نوعها، إذ لم يخصصها لتلقي العلم من العلماء فحسب، وإنما أنفق جل وقته في جمع صنوف من النباتات في أرض الشام والعراق ومصر، فشاهد من أنواعها ما لا ينبت مثله في أرض المغرب، وكان يقف بنفسه على منابتها ويعاينها وهي بعد نبتة على الأرض قبل التقاطها وجمعها. وأخضعها للفحص والدراسة، فحدد منابتها ومنافعها، فجاء عمله هذا مكملاً لجهود من سبقه من العلماء الذين أمضوا أعمارهم في تتبع خصائص الأقاليم الإسلامية كتباً غريبة وأدخلها الأندلس، محققاً لرغبته في جمع الكتب في مختلف فنون العلم، مستفيداً من سعة حاله في اقتنائها، محتسباً في نشرها وبذلها لطلبة العلم بسخاء نفس وكرم أخلاق، وحتى ولو كانت من الأصول النفيسة. ومثلما أنفق الكثير من ماله لاقتناء الكتب؛ فقد بذل أيضاً جل وقته في مطالعة الكتب إذ كان يطيل السهر بالليل للقراءة والكتابة، رغم ما قيل عن رداءة خطه. والناظر في قائمة المؤلفات التي كتبها ابن الرومية يدرك بوضوح، رسوخ قدمه في العلوم الشرعية، ويدرك أيضاً تنوع اهتماماته العلمية. في علم الحديث؛ صنف ابن الرومية (مختصر كتاب الكامل في الضعفاء والمتروكين) لابن عدي. في رجال الحديث. ووقع هذا الاختصار في مجلدين. وكتاب (المعلم بما زاده البخاري على كتاب مسلم). وكتاب (الحافل في تكملة الكامل لابن عدي). و(مختصر كتاب الدار قطني في غريب حديث ابن مالك)، في مجلدين. وكتاب (نظم الدراري فيما تفرد به مسلم عن البخاري). و(حكم الدعاء في أدبار الصلوات). و(كيفية الأذان يوم الجمعة). و(أخبار محمد بن إسحاق). و(فهرسة ما رواه عن شيوخه في الأندلس وفي المشرق الإسلامي). ومن مؤلفاته في النباتات والأعشاب، (شرح حشائش دياسقوريدس) و(أدوية جالينوس، والتنبيه على أوهام مترجميها). و(مقالة في تركيب الأدوية). و(التنبيه على أغلاط الغافقي في أدويته). و(الرحلة النباتية والمستدركة). وعلق ابن الخطيب على هذا الكتاب بقوله: (وهو الغريب الذي اختص به، إلا أنه عُدم عينه بعده، وكان معجزة في فنه). ويستفاد من قوله أن ابن الرومية تميز بكتابه هذا على ما سواه في حقله العلمي، وأن الكتاب كان مفقوداً في القرن الثامن الهجري –عصر ابن الخطيب-. ويظهر أن هذا الكتاب هو الذي عناه المقري بقوله: (صنف كتاباً حسناً كثير الفائدة في الحشائش، ورتب فيه أسماءها على حروف المعجم). توفي ابن الرومية فجأة سنة 637هـ في إشبيلية، منسلخ شهر ربيع الأول مستهل ربيع الآخر، عند مغيب الشفق من ليلة الاثنين، (بين الظهر والعصر من يوم الأحد المُوفي ثلاثين من ربيع الأول). وكان ممن رثاه جماعة من تلامذته، جمع أسماءهم أبو محمد الحرّار في كتاب ألفه في (فضائل الشيخ أبي العباس).