بدخول لبنان – رسميا – الى مرحلة الفراغ، ابتعد الاستحقاق الرئاسي عن الدائرة اللبنانية الدافئة إلى الدائرة الإقليمية الغائمة، لكن فرصة الصناعة اللبنانية لمقام الرئاسة لم تنته. صناعة الرئيس في لبنان تمر بأربع دوائر: الدائرة المسيحية، لو فشل الاتفاق داخلها على اسم معين نتتقل الى الدائرة الإسلامية. إذا فشل السنة والشيعة في اختيار الرئيس ننتقل الى المستوى الخارجي، الدائرة الإقليمية. بعد الفشل المسيحي ثم الإسلامي تصبح صناعة الرئيس مرهونة بتفاوض سعودي – إيراني، وفي حال لم ينجح هذا المستوى ننتقل إلى المستوى الأخير، الدائرة الدولية. والخطورة في فشل هذا المستوى – وهو احتمال أعلى من سابقيه – أنها تحول الفراغ الى مؤسسة دائمة تستدعي مؤتمرا تأسيسيا يهدد صيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين التي تجسد معنى لبنان. من الواضح أن المستوى المسيحي فشل تماما. والرهان الآن على المستوى الإسلامي الذي تداول ثلاثة أسماء ليكون من بينها الرئيس المقبل: حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، السياسي العتيق جان عبيد (صاحب الظلال البعثية) وقائد الجيش جان قهوجي المفضل لدى (حزب الله). المشكلة في انجاز المستوى الإسلامي مرتبطة بالعلاقة العضوية بين حزب الله وإيران، والحلف الحميم مع الجنرال ميشال عون. تعتقد إيران ان الفراغ فرصة جدية لمؤتمر تأسيسي يكرس لبنان تحت وصايتها الدائمة من خلال المثالثة، أهمية لبنان لإيران تتلخص في موقعه الجغرافي شمال إسرائيل، إضافة إلى انه مطلها المنطقي الوحيد على المياه الدافئة. من جهة أخرى، فالجنرال عون يرى في اللحظة الراهنة فرصة أخيرة – بحكم السن – لتحقيق حلمه، رئاسة الجمهورية ثم جنازة رئاسية حين ياتي الأجل. دخل تيار المستقبل إلى الدائرة الإسلامية بتصور أي رئيس أفضل من الفراغ حتى لو كان عون لأنه اختار شرعية التمثيل الحكومي – فقط – للطائفة السنية، ليملأ سمير جعجع بكل جدارة تمثيلها السياسي ويعوض زعامتها المرتعشة. عون بالنسبة لسعد الحريري هو الخيار الأخير، لأن خياره الأول هو الرئيس الرمادي. وعليه، ما هو الدور الذي يجب أن يقوم به سمير جعجع مرشح 14 آذار للرئاسة؟. على (جعجع) الاعتراف بأنه اقتحم سباقا رئاسيا قويا بحملة انتخابية ضعيفة، فالذين ينتخبون الرئيس هم نواب البرلمان لا جموع الشعب، ومن خلال جلسة التصويت الوحيدة اتضح ان حملة جعجع لم تدرس المشهد الانتخابي جيدا. قبل التصويت، صرح (جعجع) بأنه سينال أصوات 59 نائبا هي كتلة 14 آذار في حين يعرف المتابعون بأن الكتلة انتهت إلى 53 نائبا بعد أن تجاوزت السبعين حين ربحت الانتخابات (صوت لجعجع 48 نائبا بعد تغيب ثلاثة نواب وتصويت نائبين بالورقة البيضاء هما محمد كبارة وصهره المنتظر زياد القادري). لم تبلغ الحملة الانتخابية (جعجع) بأن الطريق الى الرئاسة سالكة في حال اتحاد قوى 14 آذار. وان المطلوب بدء الحملة الانتخابية قبل عام من الاستحقاق لا قبل أسابيع، وأنه من الواجب معالجة حساسية أقلية طرابلسية بالتواصل مع النائب محمد كبارة وكتلة الرئيس نجيب ميقاتي والاتفاق معهم بالتوازي مع مواجهة التلفيق السوري لقضية رشيد كرامي إعلاميا وقانونيا. لم تبلغه الحملة بأن تفريط 14 آذار في حلفائها بعد الانتخابات وتسرب بعض نوابها إلى ميوعة الوسط أو إلى ظلمة الطرف الآخر كارثة بحق لبنان قبل الحلف السياسي. لم تبلغ الحملة (جعجع) بأن وليد جنبلاط حليف لا يعوض ولا فرصة للوصول الى الرئاسة من دونه، وأنه منزعج من تبني القوات – برهة من الزمن – لقانون انتخابات عنصري (القانون الأرثودكسي) يمس نفوذه السياسي بضراوة. جنبلاط لن يدعم مرشحا لا يتمسك معه بقانون الستين الانتخابي، لذا فالرهان على تصويته المجاني انفصال عن الواقع. لم تبلغ الحملة (جعجع) بأهمية الناخب العربي في انتخابات الرئاسة اللبنانية، وأن الواجب يتحتم بجولة مكوكية عربية هدفها إبعاد أي أثر سلبي على حملته الانتخابية، وأن (جعجع) في يده أن يطمئن العرب بأنه من يحمل في يده مفتاح مصالحة المسيحيين النهائية مع العروبة – لا القومية العربية – ومفتاح مصالحة المسيحيين الحاسمة مع القضية الفلسطينية. كان واجبا على الحملة بأن تنبه (جعجع) إلى أن التلفيق السوري عنه كمرتكب لمجزرة صبرا وشاتيلا يستدعي تعاملا جديا وواسعا. والحق أن (جعجع) يتعاطى بمسؤولية كبيرة وإيجابية مع القضية الفلسطينية في مواقفه السياسية الدورية ثم برنامجه الرئاسي. المتوقع من (جعجع) أن يكون على مستوى الزعامة الوطنية التي حققها بين المسلمين والمسيحيين بعد خروجه من السجن الجائر. عليه أن يبلغ حلفاءه – داخليا وخارجيا – بأنه لا يتمسك بالترشح للرئاسة، لكنه يتمسك بموقع صانع الرئيس ولا يقبل بموقع أقل من المفاوض الأساسي عن 14 آذار. ربما عليه أن يفكر جديا في محاصرة الطرف الآخر، بإعلان ترشيحه لرياض سلامة أو هنري حلو، وأن يسعى في تأمين غطاء البطريركية المارونية لهذا الترشيح إنقاذا للبنان من الفراغ وحمايته من صيغة مستقبلية تهدد معناه. ترشيح هنري حلو (الوفي لثورة الأرز) – مثلا – من 14 آذار مع كتلة جنبلاط وصوتي كبارة والقادري يؤمن وصولا مضمونا إلى الرئاسة، كما أنه يكشف بلا لبس ناخبي الفراغ أمام اللبنانيين والعالم، والأهم أننا نضع صناعة الرئيس في الدائرة الوطنية – مرة أخرى – بقيادة جعجع. المتوقع منه أيضا، العمل على إعادة وحدة 14 آذار – قدر الممكن – سياسيا وانتخابيا وتكريس موقعه كزعيم وطني يحقق صلاة ملهمه القديم (دوشاردان): اللهم اجعلنا واحدا. حظوظ جعجع في الرئاسة انخفضت ما لم يزل نظام بشار الأسد، لكنها ارتفعت لعام 2020، شريطة عمل يبدأ من اليوم وتغيير حملته الانتخابية التي ربما تساهم بلا قصد – إذا استمرت – في إيصال الخصوم إلى الرئاسة بعد ست سنوات!. بالتزامن مع صحيفة (العرب) اللندنية