تراجيديا براغ تصور أنا قادر على سرد أحداث براغ بتفاصيلها الممكنة والمتخيلة جميعها. في الحقيقة يمكنني أن أحكي لك كيف نشأت مدينة براغ بحسب تكهنات ليبوشي أميرة القبائل التشيكية. فمنذ غابر الزمان توغلت الأميرة داخل الغابة، التي صارت اليوم قصرا، فلاحظت رجلا منهمكا في نحت عتبة بيته، حينها وضعت الأسس الأولى لبناء هذه المدينة، التي يعني اسمها «الباب» . لا تكن متوهما، فأنا أكثر من جني بسيط، لأني في الواقع عالم محترم جدا. عشت سنين طويلة ورأيت أشياء مثيؤة في هذا العالم. كنت شاهدا على وقائع حدثت في القصر خلال تاريخه المديد. منذ عصر تأسيس المدينة ببيوتها الخشبية الأولى وإلى يومنا هذا. رأيت أيضا جسر تشارلز ينهار وسط النهر كعظم كبير. يمكنني الانطلاق من هذا الجسر ذي النصب الشبيهة بطيور قادمة من نجم ميت. حسب تعبير صاحبك ناظم حكمت. عاشق براغ وكبداية يمكنني سرد حكاية القديس جان نيبوموتشين الذي ألقوه في نهر الفلاترا نظرا لامتناعه عن إفشاء اعترافات الملكة، للملك فنسلاس الرابع. وبعد ذلك أحكي لك قصص قديسي جسر تشارلز وكذلك قصة الانكشارية «الجيش العثماني» خاصتك التي لها نصبها أيضا، لكن هذه قصة طويلة، على أي حال، فقد تسمعها من فم الانكشاري نفسه، إذا خرجت تتجول بعد توقف الأمطار، لأنه، كما سترى، ففي الليل وما أن ينسحب الناس إلى بيوتهم ويصعد الضباب من النهر وينشر أشرعته حول المدينة، حتى تبدأ النصب تتحاور فيما بينها. حان الأوان للعودة إلى الموضوع الأساسي. إذا أردت رأيي فإن تاريخ هذه المدينة هو تاريخ من الجرائم وللبرهنة على ذلك، نأخذ حكاية القديس فاكلاف المهيمن على براغ وبوهيميا جميعها. مع أنه كان رجلا طيبا إلا أنه قتل من طرف أخيه. رغم أن فترة حكمه كانت إيجابية للبلاد. في الواقع لم يكن قديسا وإنما كان ملكا شجاعا، إذا لم تصدقني اذهب لتشاهد نصبه وسط الساحة الشهيرة باسمه. هناك ستجده فوق مطيته بين جماعة من أربعة قديسين. الراية في يد والسيف في اليد الأخرى للتصدي لأي الغزاة. من هم الغزاة؟ خمن إذن؟ لكن كيف ستعلم ذلك؟ حسنا إذا صبرت قليلا، فسأحكي لك القضية كلها. يتعلق الأمر بالدبابات السوفييتية، عندما أراد دوبشيك وأصدقاؤه تحرير النظام وإقامة «الاشتراكية ذات الطابع الإنساني» أطلقوا الحركة التي ستميز تاريخ القرن العشرين تحت اسم «ربيع براغ» زارعين في قلوب الناس هنا الأمل في تصور إنساني للاشتراكية. الرفيق الكبير السوفييتي لم يعجبه ذلك، بل أعلن رفضه، وذات صباح سيبعث إلى براغ دبابات البلدان التابعة لحلف فارسوفي. غير أن طالبا يدعى «جان بالاش» سيضحي بنفسه محترقا في وسط هذه الساحة نفسها منددا بوحوش الكرملين. بالطبع هم أقل بشاعة وأكثر قوة مني. نعم الوحوش جميعهم ما عدا بريجنيف ذي الحاجبين الكثين والأشعثين. أليس كذلك؟ فقد دعا إلى تنفيذ عملية «العودة إلى الوضع الطبيعي» ساخرا من العالم بأسره. مازال الشعب التشيكي إلى يومنا هذا يخلد ذكرى ذلك الطالب من خلال زيارة قبره شتاء وصيفا والجلوس بقربه وإضاءة الشموع. ما قاله الجني صحيح. كيف يمكن نسيان ذلك اليوم الثلجي من شهر يناير حينما تصاعدت النيران من جسد هذا الشاب الذي صنع من ساحة فاكلاف أتونا ؟ كيف يمكن التكهن أن عملية العودة إلى الوضع الطبيعي ستدوم عشرين سنة، إلى أن حدثت «الثورة المخملية» ومعها المطالبة بالاستقلال من طرف الوزير الأول فاكلاف هافيل وبنفس الطريقة وفي هذا المكان بالتحديد. كيف يمكن التكهن بالأسباب التي دفعت ناظم حكمت خلال زياراته لبراغ إلى عدم ذكر تمثال ستالين ذي الشارب المجعد الواقف وسط حديقة ليثنا؟ صحيح إنه صبيحة المؤتمر العشرين بمعنى بعد تقرير خروتشيف الذي أدان الجرائم المرتكبة من طرف ستالين، انتقد الشاعر أيضا الديكتاتور الأحمر، رغم أنه لم يكن يريد قول السوء في حق الحزب الشيوعي. وهكذا كتب قائلا: كان من الحجر والنحاس والورق المجصص بسنتيمترين إلى سبعة أمتار من العلو كنا تحت جزمته [...] في جميع ساحات المدينة [...] في المطعم كان شاربه [...] مغموسا داخل حسائنا. مع ذلك فإلى غاية 1961 تعمد ناظم حكمت ألا يلاحظ تمثال ستالين ذا الظل المنعكس على مياه الفلاتفا. لا يرى الشاعر غير البنايات الباروكية والسطح المذهب للبرج الأسود وكذلك الأنوار الزرقاء «الصافية والمنعشة والفاتنة» التي تنزل عند الظهيرة فوق أشجار القصر الكستنائية. كان من عادته أن يمعن النظر إلى فراء ذئاب ودببة واجهات محلات شارع فاكلاف، وإلى البواخر ذات المدخنات الصفراء والحافلات ذات الألوان الزاهية، لأن المنفى والإبعاد عن وطنه الأصلي وافتراقه عن ابنه مميت «محمد» الذي مكث في إسطنبول، كان يستنزف قلب الشاعر. ربما لهذا السبب فضل مشاهدة ألعاب المحلات بدل النظر إلى تمثال ستالين. في الليل كان يذهب إلى منزل فاوست، يدق الجرس وفي نيته توقيع عقد مفستوفيليسي: أطرق الباب في هذا البيت، أنا بدوري ذاهب للتعاقد مع الشيطان، سأوقع بدمي أنا بدوري لن أنتظر منه الذهب ولا المعرفة ولا الشباب ليس بمقدوري تحمل الحنين سأستسلم... فليأخذني ساعة إلى إسطنبول... إسطنبول، من الآن فصاعدا، لم تعد نائية، لأن «الستارة الحديدية» سقطت منذ عشر سنين. ولن تتوقف مياه النهر عن الجريان تحت جسر براغ. من الآن فصاعدا تمر الخطوط التركية من السماء التشيكية، لكنها لا تتوقف. طبعا منذ إعلان الاستقلال لم تعد تشيكوسلوفاكيا موجودة إذ انقسمت سلميا إلى دولتين منفصلتين: جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك. «ها أنت ترى. واصل الجني. لقد مـر الميدان القديم بساعات كثيرة ومصائب عديدة، قبل أن يطلق عليه اسم فاكلاف. هنا حيث احترق يان بالاش بالنيران، أحرقت محاكم التفتيش أيضا «يان» آخر قبل خمسة قرون شخصا يدعى يان هوس عارض الكنيسة الكاثوليكية هو أيضا حصل على نصب أمام فندق المدينة وسط الساحة حيث كنيسة «تين» تمد ظلالها القوطية. وبذات المكان أيضا بعد هزيمة الجبل الأبيض قطعت رؤوس الجنود التشيكيين الذين حاربوا من أجل استقلال بلادهم. الآن، هدأت الأمطار، ما عدت راغبا بسماع مزيد من الوقائع الغابرة التي جعلت براغ تعيش ما بين النار والدماء. أريد فقط أن أتسكع بين دروب المدينة. لكن بينما أنا أستعد للخروج، لم يمنع الجني نفسه من التكشير، فسرد علي بتفصيل مصير سلالة الهاسبورغيين، مستهلا بسرد حكاية الذين ألقوهم من نوافذ القصر. « عندما اضطر الملك رودولف الثاني للتخلي عن العرش لصالح أخيه ماثياس مما دفع أسرة الهابسبوغ لمغادرة براغ والاستقرار في فيينا. يومها انتفضت السلطة البروستانتية في بوهيميا، فأصبحت المواجهة حتمية بين هذه الأخيرة والسلطة المركزية الكاثوليكية المساندة للاستقلال. في 1620 دخل الفريقان معركة بـ «بيلا هورا» أو ما يطلق عليه «الجبل الأبيض» . كما يقول مدونكم العثماني الشهير «القسوة هي القانون» فشيدت لهم منصات الإعدام وسط الساحة لمعاقبة متزعمي التمرد وقطع رؤوسهم» كما يقطع الشمندر بحسب تعبير أحد أشهر شعرائكم. «ذات يوم دافئ من شهر يوليو، عام 1621 قادوا من القصر إلى ساحة المدينة سبعة وعشرين شخصا من أصل بوهيمي، كان يرافقهم فيلق من فصيل الإعدام وفرقة من رتب عالية. وعند وصولهم إلى ضفة نهر الفلاتفا، جلجلت الأبواق. وخلال عبورهم الجسر ألقوا آخر نظرة على المدينة التي دافعوا عنها وضحوا بحياتهم من أجلها.. في وسط الساحة استقبل الموكب المحكومين الجلاد المدعو يان ميدلار ــ نعم يصادف أيضا أن اسمه يان أيضا ! ــ منتظرا إياهم حاملا مدية. ومع نسيم الصباح، لا يظهر من قناعه الأسود غير عينين ترتجفان قليلا. اتخذ ممثلو السلطة المتشحين بالسواد أمكنتهم على شرفة فندق المدينة، كما يقتضي البروتوكول. أما سكان المدينة فتكدسوا حول المقصلة العالية حيث المحكومون سينفذ فيهم الإعدام. المتجمهـرون بعضهم يتدافع ليصل إلى الصفوف الأمامية. بجوار المقصلة، رصت النعوش التي ستستقبل الجثث المنثور عليها الرمال كي تمتص الدماء. كانت الأبواق معدة لإخفاء أصوات الضحايا، لهذا كانت أصواتها أشد قوة. وبعد ذلك شاهد الجمهور المستعجل قطع الرأس الأول ثم الضربة الثانية والثالثة والرابعة. وكلما تدحرج رأس، حاول السياف حبس الدم المتدفق من الأعناق المحزوزة بوضع عقدة فوق كل رأس على حدة. وعندما وصل إلى الضربة العاشرة بدأ السياف يتعب ولم تعد شفرة الفأس حادة كما في البداية. بدا بذراعيه الضخمتين وجسمه الهائل المتصبب عرقا، أشبه بآلهة اليونان القديم، تسخر من قديسي جسر تشارلز. وبينما المساعد يجفف قطرات عرق السياف أحضروا من الجوار شرابا بحجم برميل. شرب يان السياف كمية ضخمة من الشراب المنعش المرغي بينما البقية هرقه فوق الرمال الملطخة بالدماء. ثم استأنف عمله من حيث توقف عنه. وفيما يخص الإعدامات المتبقية، فإنه سيدفعه الحماس إلى درجة قطع اليد اليمنى للمحكومين قبل أن يقطع رؤوسهم. وعندما جاء دور الدكتور يوهانس جيسينوس الذي كان عميد جامعة براغ، نزع لسانه. وبعد ما فصل رأس المحكوم السابع والعشرين عن باقي جسده تحت تصفيقات الجمهور وأصوات الأبواق التي بدأت تنخفض شيئا فشيئا. وضع بعناية الأيدي المقطوعة إلى جانب اللسان المنزوع بجانب الجثث بدون رؤوس. كان عمله قد انتهى. وباستثناء رأس «سليك» الذي سيسلم لعائلته سنة 1622 فإن رؤوس الستة والعشرين، محاربو الاستقلال قد عرضت خلال عشر سنين داخل أقفاص حديدية وسط الساحة كي تكون تحذيرا للشعب. وهذه الأحداث الدموية لن تعتبر بداية أو نهاية التراجيدية التي وقعت في براغ».. لم يعد بمقدوري سماع المزيد، فرجوت الجني أن يسكت، لكن بلا جدوى. إلى الأسفل دفعت سارد المصائب إلى داخل الحقيبة وأغلقت غطاءها بعناية، ثم خرجت، مقررا إلقاءها إلى مويجات النهر الفضية. لم تعد تمطر وبدأ قوس قزح يلمع فوق القصر. يمكنني الآن التجول في براغ.