من اليونانية انتصبت كلمة (الكاريزما) مختزلةً معاني الجاذبية والآسرية والفعل والتأثير مجللةً بالعنفوان مكللةً بالشموخ، فتسلمتها الإنجليزية وتوجتها بشرعية الوهج والحضور في كل لغات العالم، وأمسى كل من أوتي حظاً من القوة الشخصية والتأثير يزعم أن له مقعداً بين عوالم هذا المصطلح الساحر. الإشكالية أنه في غمرة البدار والمسارعة إلى ضفاف هذا الوصف وظلال هذا النعت وإيحاء هذه الميّزة، اختلط حابل الحقيقة بنابل الوهم والادعاء وبخاصة لدى من أوتي قدرةً على البيان وبلاغة الإفصاح وتمكن من مخارج الحروف وإيقاع الكلمات، والنتيجة أنْ وقعت جمهرة المتطلعين إلى الأنموذجية والقيادة في مخادع العنتريات التي ما قتلت ذبابة ! وعلى ذكر العنتريات.. سوف يبقى هذا الكلام شبيهاً إلى حد كبير بالتلويح بالسيوف الخشبية مالم يسند بالمثال والشاهد.. إذاً لنتجاوز جميع التحليلات والتعليقات التي كتبت ونشرت في مختلف الوسائل واشتملت على التفسيرات المنطقية والإنسانية والجيوسياسية حول ما حدث للوطن الجميل لبنان، وما ترتب على ذلك من تجاوزات جسدت أكثر صور البشاعة والكارثية حضوراً في الساحة الإنسانية بعامة والعربية بخاصة.. لنتنجاوز -برغم الألم والقهر- كل تلك الأزمات المدمرة ولْنتوقفْ مسافة هذه القراءة عند شخصية السيد (حسن نصرالله) الأمين العام لما يسمى (حزب الله) في الجنوب اللبناني العزيز. هذا الرجل عندما ألقى خطابه الشهير قبل سنوات وهدد فيه العدو الصهيوني والعدوان الإسرائيلي على الجنوب والأراضي العربية، وقام في تلك الفترة بأسر جنديين إسرائيليين.. هللت الأمة العربية وكبرت، وظهرت -ربما بعد انتظار- تلك الشخصية العربية المفقودة وتلك (الكاريزما) الغائبة.. وبعد ذلك بعشرة أيام اجتاح الغل الاحتلالي الصهيوني والحقد الإسرائيلي قرى الجنوب وما حولها فدمر وقتل وأسر وشرد،، فمسحت الشخصية القوية لنصرالله ومحيت (كاريزماه) إلى الأبد، فقام يجر أذيال الخيبة والهزيمة وألقى خطابه الاستسلامي الذي قال فيه بالحرف الواحد: (لو كنا نعرف أو نتوقع أن أسر الجنديين الإسرائيليين سوف يؤدي إلى هذه الكارثة لما قمنا بهذه العملية). !! إذاً.. بماذا يمكن أن نفسر ذلك المشهد.. مشهد القائد القوي الشجاع العنيد بعيد النظر، الذي يمتلك آليته السياسية التي يستطيع من خلالها أن يكتشف مخططات العدو من حيث التخطيط والإعداد الاستراتيجي واللوجستي؟.. ثم يكشف ذلك القائد لجماهيره عن خطة عدوه ومخططه العدواني، ولا يكتفي بذلك بل يشير إلى الموعد المحدد للبدء في تنفيذ الخطوات العملية.. كل ذلك في لغة قوية واثقة موثقة وفي استعداد وعرض للقدرة على الرد والمواجهة !! بصدق، ليس لذلك إلا تفسير واحد هو: تمثيل الأدوار، بدليل ما صار وكان بعد ذلك، وأخطره على الإطلاق انحيازه المطلق للعصابات التي قامت بالمجازر والمخازي الإنسانية في سورية. أسارع هنا وأبادر إلى إثبات أنْ ليس من السهل ولا من المنطقي ولا من الإنساني كذلك المقارنة بين الشخصية القوية الحقيقية و(الكاريزما) الفعلية من جانب، وبين التظاهر وتمثيل الأدوار من جانب آخر، غير أن هؤلاء المزدوجين الذين يمثلون أدواراً ليسوا أهلاً لها يجبرون الدارسين والمحللين والكتاب على أن يجمعوا بين المتضادات، وأن يحددوا موعداً للمتناقضات والمفارقات، وهذه في عقيدتي قمة الكارثة، بدليل ما يحصل على الواقع المباشر المحسوس، فما الذي سوف تجنيه التضحيات وعمليات الاستشهاد والدمار والمواقف والخطابات عندما تجد نفسها في مهيع من المجانية والفقدان والبوار والهباء دون ذرة من رصيد؟! عندما أخرج الآن من هذا السياق، سوف يمسك بي مباشرةً سؤالٌ لغويٌ ثقافيٌ له علاقة بالهوية هو لماذا لانحظى في لغتنا الغنية الثرة بمفردات تقابل المفردات الأجنبية مثل كلمة (كاريزما) دون أن أضطر إلى الإضافات والمترادفات ؟ أرجو وآمل ألاّ يكون لذلك علاقة بالازدواجية وتمثيل الأدوار.