** رحل «غازي» في يوم صدور كتابه الأخير»ألزهايمر»، ولحقه رفيقه «أبو محمد» في يوم صدور الجزء السابع والثلاثين من وسمه وما كانا متقاعدين إلا من مرضٍ ألمَّ بهما ولم يمهلهما؛ فمضيا وما وَهَنا ولم يثنِهما دنوُّ الأجل الذي علماه قدرَ اللهِ وتقديرَه، وشيَّعتهما سيرتُهما المضيئةُ وحبُّ الناسِ ورحمةُ ربِّ الناس. ** فوارقُ توقيتٍ ضئيلةٌ تفصلُ الجدَّ عن الحفيد والمتقدمَ عن المتأخر ويستوي حينها الغنيُّ والفقيرُ والكبيرُ والأجيرُ والتقيُّ والشقيُّ، ونعجبُ ممن يغادرون ولا يُبقون ذكرًا ولا يَلقون شكراً. ** رثى صاحبُكم شيخَه أبا محمدٍ بكليمةٍ في الثقافيةِ عنونها: «افتقدنا الخويطر» وعنى شخصَه ومجلسَه وهدوءَه وحكمته ونُشرت السبتَ ففارقَ الأحد؛ قاده الأملُ وقد شحَّ الخبر، وطال الأمدُ فلاذ بالصَّمد، وكان يلتقطُ نثارًا مما يقال عن حالته لم توغل في التحقق ولم تسرف في التوقع. ** لم يشقَّ على زائرٍ عناءَ عيادته في حياته مثلما يسّر لهم الصلاةَ عليه بعد موته؛ فأيُّ خُلُقٍ سكنه ليستقبل الأضيافَ حين الصحةِ ويضنَّ بهم وقت السقام، ولو كان للعتبِ مكانٌ فقد حرمنا من تقبيلِ جبينِه على سريره الأخير فزدناه دعاءً وفزعنا إلى رجاء. ** كان الكتابُ صديقَه الأجمل وكان الحديثُ حوله فاتحةَ مجلسهِ وخاتمتَه حين يتفقُ الحضورُ ثقافيًا حتى إذا أُتيح لأبي محمدٍ أن ينطقَ فينطلقَ - وهو المؤْثرُ غيرُ المستأثر - ألفيتَه تراثيًا متجددًا عالمًا بالتأريخِ واللغةِ والشعرِ والأعلامِ، ويبتسمُ حين نراجعه فيما كتب ونسأله أن يتوسعَ في بعض القضايا فلا يردُّنا بـ»لا» ولا يعدُ بال»نعم»، وكان يعلم أننا نعلم أن الصندوقَ المغلقَ في داخله دون مفاتيح. ** حين يحكي ينصتُ الجميع لكنه يؤثر الصمت مُصيخًا باهتمامٍ ولو لم يكن الحديثُ مهمًا، وجمعنا - قبل أشهرٍ- لقاءٌ خاصٌ في منزل شيخنا العلامة محمد العبودي -رعاه الله- ودار الحديثُ حول وثائقَ محددةٍ مختلفٍ حولها فلم يتكلم واختلى به صاحبُكم بعد العشاء فسأله رأيه فيها فأفاضّ بما أضاف، وانصرفنا مبكرين إذ قال معالي الوزير بلهجته الهادئةِ الجادةِ: «ورانا دوام»؛ فلم يكن المسائِلُ لا المُساءَل يفرطٌ في وقت عمله، واستفسر منه صاحبكم يومًا عن أسرار إنتاجه الغزير وقرنه مع صديقه وشيخنا العبودي فأجاب: «لأننا ما نلعب بلوت»! ** يبقى كتابه «وسمٌ على أديم الزمن» عطاءَه الأثيرَ، وكان في سباقٍ مع الزمن لإنجازه، وأحسسنا خشيتَه ألا يُكمله فقد أكثر في زياراتنا الأخيرة له من تكرار مقولة: سترونه في الجزء الخاصِّ بكذا «إذا الله أعطانا عمرًا»، وقد أعطاه الله عمرًا أغلى من العمر فسيبقى شيخُ الوزراء وشيخُ الأكاديميين في ذاكرة القلوب الحفيةِ التي لن تنسى المعادلةَ العصيَّةَ فيمن جمعَ الرفعةَ والتواضعَ والانشغالَ والفراغ والطيبةَ والصرامةَ والجديةَ واللطفَ والكتابة الثرّةَ والقلمَ الثريَّ مثلما ظل نموذجًا لعفةِ اللسان والبنان واليدِ؛ فأغناه اللهُ بحبٍّ يبذل له ذوو الجاهِ دعاياتِهم ودعواتهم فلا يحوزون إلا قليلاً مشوباً. ** ويبقى دورُنا -مريديه الأقربين- أن نتبنى قولاً وعملاً إكمال الوسمِ حتى جزئه الخمسين فقد بقيت -في أوراقه- أربعة عشر عامًا فلعلها مهيَّأةٌ في مسَوَّداتها، وقليلٌ بحقهِ أن نفيَ للكتاب الذي عشقه قارئُا وكاتبًا، وربما رأت جامعة الملك سعود -وهي المرحلةُ الأخصب في سيرته هو الرقمُ المتصدرُ في مسيرتها- أن تتبنى كرسيًّا بحثيًّا يجمع التربية والتأريخَ واللغةَ والإدارة في شخصِ رجل الوطن الدكتور عبدالعزيز الخويطر الذي لن يغيب. ** الحياةُ بعد الممات.