"الشبوك" مصطلح سعودي يُطلق على ذلك السياج الصدئ الذي يُحيط بالأراضي الشاسعة، سياج تحول مع الوقت إلى قلق سياسي واجتماعي وبيئي، قلق عاد أخيراً إلى الواجهة مع حديث الأمير "متعب بن عبدالله" عن الشبوك خلال الجلسة التي نظمتها الغرفة التجارية الصناعية بجدة، وإن سموه يُشكر على إعادة هذا القلق الاجتماعي إلى الواجهة، يُشكر على هذه الشجاعة. إن شخصا بمكانة ومنزلة ومنصب الأمير "متعب بن عبدالله" حين يتحدث إلى الإعلام عن الشبوك فخلف حديثه دلالة على أن هذا الداء قد تفشى في كامل الوطن وبات لِزاماً أن يتم إيجاد العلاج عاجلا غير آجل، فالآلام والصداعات الذي سببتها الشبوك في الوطن بمؤسساته وأفراده وحتى بيئته غدت شيئاً لا يُطاق، الكل بلا استثناء يتألم لهذه الحال من شح الأراضي في وطن لا شيء فيه أرحب من الأرض. صحيح أن حديث الأمير "متعب" كان ساخراً فيه روح الدعابة لكن ما تعلمناه أن السخرية في غالبها تعبير عن ألم، ألم ألا تجد مؤسسات الدولة أراضي تقيم عليها صروحها الخدمية التي تسهل حياة المواطن، أن "تدوخ" وزارة الصحة "السبع دوخات" حتى تجد أرضا تُقيم عليها مستشفى، أن تُصاب وزارة التعليم بالصداع إلى أن تجد أرضاً لتقيم عليها مدرسة، وكذا الحال بكل المؤسسات، الكل حاله حال المواطن، الكل يضرب كفاً بكف! إن المتضرر من الشبوك ليس المواطن فقط إنما الجميع بلا استثناء، وليس هنا من مستفيد حتى أصحاب الشبوك الذين تركوا أراضيهم بيضاء لا تسر الناظرين، لا هم تركوها ليتنعم الوطن، ولاهم أحيوها ليستفيدوا من ريع إحيائها ويستفيد آخرون، نعم هنالك من جزأها ثم باعها قِطعاً وجنى الأرباح إلا أن هذه ليست فائدة طالما المتضرر وطن، ولو أن مُلاك الأراضي أحيوا أراضيهم الهائلة ببناء مشاريع أو مصانع تخدم الوطن لهان الأمر قليلاً أما أن تُترك هكذا أراضي خربة لا يُستفاد منها، فهذا داء فوق الداء، قبح في الفعل وفي تنفيذ الفعل، والنتيجة هذا المنظر القبيح. إن الشبوك لا تحرم المواطن من السكن فقط، إنها تحرمه من السكن والعلاج والتعليم وحتى الترفيه، فيتكدس المواطنون في المستشفيات ويُكدِسون أبنائهم في المدارس لشح الأراضي، إنها تحرمه من الترفيه البريء الذي كان يجده آباؤنا حين يخرجون للبر أو على شواطئ البحر لقضاء أوقات ممتعة بصحبة الأسرة، أما اليوم ما عدنا نجد مكانا للترفيه وإن وجدناه فبشق الأنفس، ولو استمر الوضع على ما هو عليه لربما سيأتي يوم يتسامر فيه أبناؤنا بقولهم: يُحكى أن خلف هذا الشبك بر، ويُقال بأن خلف ذاك الشبك بحر!. إننا حين نتحدث عن الشبوك فإننا نتحدث عن مساحة لا بأس بها مُغيبة خلف الشبوك بلا مبرر منطقي، أراضٍ بيضاء غير مستخدمة متروكة هكذا بلا سبب واضح، أن الأزمة أزمة ضمير في المقام الأول، أزمة أخلاقيات تباعاً حيث العيب بات فهلوة وارتكاب الحرام غدا شطارة والكذب ذكاء، إنها أزمة دينية حيث الوعي بتعاليم الدين في ارتفاع والوازع الديني في هبوط، ولست هنا لأخطب وألقي العظات لكن وكما تعلمنا أن النجاح في التلاعب بقوانين الدنيا يعني فشلا في تجاوز قوانين الآخرة. إن الشبوك، قصة عذاب طويلة مريرة بين الوطن بمؤسساته وأفراده وبين الشبوك، كلما ضاق الوطن والناس ذرعاً بالحال تمددت الشبوك أمامهم كألسِنة تمتد مُستهزئة بأوجاع الجميع، كأنها أسنان في أفواه تبلع التراب على الدوام ولم تشبع حتى الآن!. لقد تطور المجتمع، تغيرت المفاهيم، تعلم الأبناء، إلا عقليات المُشبكين بقيت كما هي، كل أرضٍ غالية يجدونها هي عرضة للحبس خلف شبك رخيص لتحبس معها أحلام الوطن والمواطن، وتحاصر كل المشاريع التنموية من جميع الاتجاهات، تحاصر حتى أحلام البسطاء، وتشوه بيئة خشاش الأرض، إنها أشجار من شبوك، غابات من حديد صدئ تُحيط بنا من كل اتجاه. لكن، وعلى الرغم من سوداوية المشهد، إلا أنني سعدت وابتسمت لحديث الأمير "متعب" رغم أنه كان مداعباً في حديثه إلا أنني رأيت خلف هذه الدعابة ضميرا مهموما بهذا الوطن، ابتسمت لأن خلف هذه الطرافة شجاعة من سموه، خلفها بشارة خير بمرحلة مقبلة ستبدأ فيها إزالة هذه الشبوك التي لم تُبق شبراً ولا حلماً إلا شوهته، مرحلة ستلفظ فيها الشبوك أنفاسها الأخيرة.. قولوا يا رب.