أُدرِّس في مقرر عنوانه: مصطلحات اجتماعية باللغة الإنجليزية، كلاً من مصطلحات علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بمختلف مساراتهما في محاولة لمدّ أيدي الطالبات مباشرة إلى الوعاء الحضاري الذي ولدت في أحضانه المعرفة العلمية وهو وعاء الحضارة الغربية، وإن كانت بطبيعة الحال منبثقة من التّمازج والأخذ من أوعية حضارية أخرى كالحضارة العربية الإسلامية والحضارة الهندية والصينية... إلخ. والحقيقة أن من المصطلحات التي طالما أثارت جدلاً في مختلف مستويات التدريس لهذا المقرر - مرحلة جامعية ودراسات عليا - هو مصطلح «القوى الاجتماعية»، فقد كان من الملفت في كل مرة يجري طرح هذا المصطلح رغم تغيُّر المجموعات الطلابية، أن يُبدي غالبية الطالبات تفاجؤاً بالمعنى السيسيولوجي للقوى الاجتماعية الذي لا يرمز فقط إلى تعدد النسيج الاجتماعي، بل إلى قدرة تلك التعددية على تشكيل كتلة حرجة تساهم في ضبط ميزان العدل الاجتماعي، وفي تحقيق حراك اجتماعي متوازن لا يسمح لسلطة أُحادية مطلقة بالاضطلاع دون سواها بشأن المجتمع والدولة.. غير أنه ما أن يجري الانتقال بالمصطلح من المطلق التجريدي لضرب الأمثلة على تمثُّلاته الميدانية إلا وينشط النقاش لفهم موقع الشباب تحديداً في القوى الاجتماعية.. وقد وجدت خصوصاً مع تمتُّع المجتمع السعودي بأعلى نسبة سكانية من القوى الشبابية، ومع ما تطرحه رياح التحولات اليوم - عربياً - من محاولة لتعديل ميزان العدل الاجتماعي والسياسي بأيدي الشباب، أن أعرض لبعض الرؤى في أمر الشباب كواحدة من القوى الاجتماعية النشطة أو المرشحة لأدوار نشطة وفعّالة - طوعاً أو كرهاً -, في صالح المجتمع أو بالخروج عليه، فذلك يعتمد ليس فقط على موقفها من المجتمع، بل على موقف المجتمع منها بصورة أكبر وأشد تأثيراً. سيسيولوجياً، الشباب ليسوا فئة اجتماعية مثلهم مثل المطلقات في النساء أو الأرامل في الرجال أو المبدعين في العاديين أو المرضى في الأصحاء ولا من يقرأ ويكتب في الأُميين ولا ذوي الحاجات الخاصة في القادرين. وسيسيولوجياً أيضا الشباب ليسوا طبقة اجتماعية مثلهم مثل من يملكون ومن لا يملكون، ولا أصحاب رأس المال في الأُجراء والشريطية، ولا ملاّك العقار في المستأجرين أو من في العراء، ولا يُعبّر عنهم علاقة المنتج بالمستهلك والعكس.. وهم ليسوا طبقة كالتجار أو النواخذة أو المزارعين والصنّاع ولا العكس. كما أن الشباب سيسيولوجياً ليسوا القلة المتنفذة في من ليس لهم من الأمر شيءٌ، ولا العلماء في العوام، ولا المديرون في الموظفين الصغار، ولا المثقفون في العامة ولا العكس. وفيما يعني ذلك أن الشباب ليس جيلاً متجانساً في الأفكار والإرادات والشهوات والطموح لمرحلة عمرية مشتركة, فإن ذلك بالمقابل لا ينفي أنه تشكيل بشري تجمعه المساواة في القدرات والفتوة، وفي الاستعداد للتجريب ورغبة المغامرات, مما يجعل المساواة في فورة بالحياة بعروقه قاسمه المشترك الأعظم.. وهذا يضع الشباب في موقع رحب للتنفس ويعطيهم مساحات شاسعة للحركة بما ينطبق فيه عليهم قول: «إن ليس لديهم الكثير مما يخسرونه» أو قول ابن العربي: «الحرية أن لا تملك فلا تُملك». وبهذا الاستبعاد السيميائي والمقاربة في محاولة قراءة سيسيولوجيا الشباب يمكن أن نقول, إن الشباب قوة اجتماعية تحمل مكونات الفئة والطبقة والجيل والموقع، بمعنى أنها ذلك المزيج الفذ من مجموع مكونات التّمايز وأضدادها في المجتمع، وهذا يعني أن الشباب هم عينة معبِّرة عن نوع النسيج الاجتماعي الذي نحن عليه، ولكنهم في نفس الوقت عينة تتسم بالحرية النسبية في علاقتها بهذه المكونات.. فالشباب بهذا المعنى سواء انتموا إلى طبقة يُولد أبناؤها وفي فمهم ملعقة من ذهب أو ملعقة من خشب، فإنهم ليسوا طبقة بالمعنى الذي يحاصرهم بحسابات المغنم والمغرم في قوتهم اليومي، وبالتالي في قراراتهم الحياتية القريبة على الأقل.. فهم أكثر أبناء الطبقات قدرة في الخروج على محدداتهم أو بالأحرى هوياتهم الطبقية.. وهذا ينطبق على شتى المكونات الأخرى للنسيج الاجتماعي الذي يُشكّلون عينة منه - فئوية - إقليمية - مذهبية - فكرية - قبلية... إلخ.. فالشباب يحمل تلك السمات ولكنه بحكم « مرحلته العمرية» وجدة تلك المرحلة بما لم يخضعها بعد لهيبة الخيبات، عز الاحتواء أو أثمان الاكتواء، فإنه يجترح حرية وشجاعة أن يحمل روحه على كفه.. وهذا كفيل بأن يُؤهل الشباب لأن يحمل بذرة الوقوف موقفاً نقدياً من تلك «التكوينات الجاهزة»، بل ومن نسقها السياسي والاجتماعي برمته وما يتمخض عنها من أوضاع غير مواتية. وقد يتراوح هذا الموقف النقدي الشبابي من النقد العقلاني السلمي إلى التصادم أو إلى المخالعة, كما قد يحمل جرأة وقدرة على التمرد ببعديه الذاتي والعام، من التمرد السلبي الانسحابي أو التمرد العصياني إلى التمرد الإيجابي الذي يأخذ أحياناً شكل المشاركة بالمطالبة أو بالمضاربة في السياسة والاجتماع على طريقة الشريك المضارب في المعاملات التجارية.. وكما قد تأخذ مواقف الشباب النقدية مواقفَ عصابية متشنجة فقد يأخذ العقلاني منها مواقفَ وإن لم تخل من الحدة والجذرية، فإنها تنزع إلى الحوار والجدل وتملك نَفَساً تفاوضياً في معادلة العلاقة بين الشباب كقوى اجتماعية مستقلة ومتعالقة في نفس الوقت مع الواقع الاجتماعي الذي فتحت عينها عليه، وبين المجتمع وقواه المستنفذة والمستأثرة. وكما قد يختلف مفهوم الشباب والمواقف منه بحسب اختلاف الوعاء الحضاري للمجتمع أو باختلاف الوعاء الأيدولوجي للمعرفة وباختلاف المرحلة التاريخية وظرفها السياسي والاجتماعي في جغرافيا معطاة، فإن هناك اختلافات وتقلُّباً لا يتوقف في أسئلة واهتمامات الشباب وتوجهاتهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بمعناها التّعصبي أو التّحرري في تجاذب وشد مع تلك المعطيات.. وكما هناك ميل مجتمعي عام وخصوصاً في المجتمعات المحافظة للتعامل مع الشباب بأبوية تتراوح بين التشجيع وبين التشكيك، وبين الترغيب والترهيب، فإن استجابات الشباب نحو تلك الأبوية بطيبتها أو بقسوتها لا تُولد معهم بقدر ما تُربى فيهم ويجري تدريبهم عليها.. غير أن فرص النجاح والإخفاق في تحويل مواقف الشباب إلى طاعة عمياء أو انفلاتها إلى حالة انشقاق تتفاوت بقدر قبول الشباب باللعبة الاجتماعية في تقاسم الأدوار أو رفضهم لأن يكون طرفاً فيها.. فالشباب بقدرته ليس فقط على استيعاب المتغيرات، بل على المبادرة إليها يجعل من مرحلة الشباب مرحلة إشكالية للمجتمعات التي تجد في نفسها غضاضة أو لا تجد في نظامها متسعاً لإعطاء الشباب كقوى اجتماعية استحقاقاتها في الاستقلال وفي المشاركة. إذن، فَهْم الشباب وإعادة الاعتبار طوعاً لأهمية وجودهم في المجتمع يُحصِّن الاستقرار الاجتماعي بالتغيير المنشود على عكس ما يتوهم الحرس المعمر.. إن المجتمع - أي مجتمع - لا يستطيع أن يُحقق استقراراً سياسياً بغير الإكراه المؤقت إن لم يجدد نفسه بدماء جديدة، وما لم يملك سعة أُفق ليتسع الوطن لمختلف القوى الاجتماعية بما يعطي الشباب حق تشكيل رؤاهم وتوجهاتهم وجعلهم شريكاً عضوداً في الحياة العامة.. فهل نملك شجاعة الشراكة مع الشباب التي لا غنى عنها لتطور المجتمعات السلمي؟ إيميل: سلاااااااااااام جمَّل الله مساءك بالإلهام كانت رسالتك الإلكترونية الوداعية نجوماً لعتمتي هذا المساء الذي تتقاسمني فيه وحشة السفر وأشواقي إليه.. فلا أجد اسماً لحالتي يصف ما أحس به من مشاعر متضاربة.. كأنني تلك الفتاة التي رحلت إلى أمريكا قبل 30 عاماً وكأن روحي لم تمتلئ بمئات طعنات الغربة والانتماء معاً. أشعر في هذه الرحلة أنني أسافر لأول مرة بينما من يدري فقد لا تعدو أن تكون رحلتي ما قبل الأخيرة.. غير أنك من حظي كنت راية ومنارة وضميراً على طرقات كم كنت فيها نهباً للكمائن، لولا ذلك الحرير من الحنان الذي كنت تمسح به أجنحتي كلما ضربتني الريح في مقتل، فأفز من جديد.