استقبلتُ مقطعَين مرئيَّين لمجموعتين من الطلبة، في أحدهما تقوم مجموعة داخل المدرسة بتكسير زجاج نوافذ الفصل والقذف بالكراسي والطاولات في كل مكان داخل الفصل، وفي الآخر حشد من الطلبة خارج أسوار المدرسة، يمزقون كل ما يقع تحت أيديهم من كتب ودفاتر، ويقذفون بها على السيارات التي تسير في الشارع بطريقة استفزازية. وفي كلا المقطعين كانت مشاعر الأسى والحسرة في نفسي أسرع من الامتعاض أو التنديد؛ ذلك أن ما شاهدته يوحي بوجود هوة كبيرة بين الأطفال والمدرسة. بمعنى آخر، تنامي اتجاه سلبي ضد المدرسة، وقد عبَّر عنه الأطفال في المقطعين وللأسف - بكل قسوة؛ فالتصرفات التي بدرت من خلال المقطعين وإن اختلفت في الشكل والمضمون إلا أنها تحمل رسالة واحدة، مفادها لا نحب المدرسة. وحتى نستطيع تفكيك فحوى الرسالة، وتحليلها إلى عناصرها الأولية، نحتاج إلى استعراض الواقع التعليمي المعاش؛ لنقف على الأسباب التي أدت إلى ممارسة هذا السلوك الخاطئ؛ فلسنا في وارد مناقشة النتائج؛ لأن الأضرار المادية يمكن تحمُّلها وبسهولة مقارنة بالنتائج النفسية والاجتماعية لمثل هذه التصرفات؛ فنحن أمام سلوك شريحة تمثل جيلاً بكامله، وهم من سيتحمل أو يفترض أن يتحمل مسؤولية وأمانة المرحلة المقبلة، وهو أمر لا مفر منه. في البداية، دعونا نتفق على أن ما ينطبق على الطالب ينطبق على الطالبة، وهناك فجوة كبيرة بين المدرسة والبيت من جهة، وبين المدرس والطالب من جهة ثانية؛ فالبيت تكونت لديه قناعة تامة بأن رأيه مغيَّب في كل ما يصدر عن وزارة التربية والتعليم من أنظمة ومناهج، وما عليهم إلا القبول بها كالمسلَّمات؛ وبالتالي أُصيبوا بنوع من التبلُّد الحسي تجاه الاستجابة للمدرسة. أما العلاقة التي تربط المدرس بالطالب فقد هوت إلى وادٍ سحيق بسبب تعالي المدرس على الطالب في أغلب الأحيان، رغم ضعف تأهيله؛ ما ولَّد لدى الطالب شعوراً بأنه مستغنٍ عن مدرِّسه، انطلاقاً من انعدام الاستفادة العلمية منه؛ وهذا أدى بالطالب وأسرته إلى البحث عن البدائل، فوجدوا ضالتهم في المدرس الخصوصي؛ ما يوفر لابنهم أو ابنتهم خصوصية تمنحهم الوقت الكافي للفهم بعيداً عن ضغوط الفصل. وإذا نظرنا إلى مرتكزات العملية التعليمية في أي مجتمع نجدها أربعة: المدرسة، المدرس، المنهج والطالب. فالمدرسة تعاني الأمرّين كمبنى ومرفقات، فما بالك إن كانت مستأجَرة. وأستحضر الآن المقطع الذي انتشر ويعرض تهشيم الطلبة لزجاج وكراسي وطاولات الفصل الدراسي، وقد شاهدته أكثر من مرة بتركيز شديد، ولاحظت أن الطالب وهو يحمل الكرسي ويهوي به على زجاج النافذة إنما يفعل ذلك وكأنه في سجن وأُفرج عنه لتوه؛ فحالة الهياج التي كان عليها الطلبة لا يمكن أن تأتي من فراغ أو رغبة في التكسير، وخصوصاً بالطريقة التي شاهدنا، وفي غياب كامل لظهور أي إداري أو مشرف بالمدرسة في المشهد؛ وهو ما يثير علامات استفهام عدة؛ فالعملية لم تستغرق ثواني معدودة، وما ظهر في اللقطة هو جزء منها، بدليل تناثر الأثاث في الفصل. ونحن هنا لا نتلمس الأعذار، لكن التحليل يفرض علينا أن نتعمق في أدق التفاصيل؛ لكي نصل للحقيقة. وهذا يقودني للحديث عن البناء المدرسي، وهو في الحقيقة بحاجة ماسة إلى إعادة نظر بالنسبة لمدارس البنين والبنات؛ فالبيئة السعودية في الغالب صحراوية، والبناء المدرسي بحاجة إلى مراعاة هذا الجانب، فغالبية الأبنية المدرسية، بما فيها الفصول الدراسية، توحي بالكآبة، فهناك ما يسمى الاستخدام الوظيفي للمبنى، فالمدرسة تختلف عن البيت، وكلاهما يختلف عن المستشفى وعن الاستراحة وعن المسجد؛ فكل مبنى له وظيفة يؤديها؛ وبالتالي ما تحتاج إليه المدرسة قد لا يحتاج إليه المسجد، وهكذا، ومن هذا المنطلق فالبناء المدرسي بحاجة إلى إعادة تصميم، وأقترح هنا على وزارة التربية والتعليم أن تعلن مسابقة وبجوائز مجزية لأفضل تصميم لبناء مدرسي وفصول نموذجية، وصالات رياضية، ومطاعم ودورات مياه، ونظام مياه شرب مفلترة بنظام تقنية عالي الجودة وموزعة بشكل متساوٍ على جميع ممرات المدرسة؛ لأن عدم توفير مياه الشرب من أهم المشاكل التي تعاني منها مدارسنا بدون استثناء. وهنا يجب أن نعترف بأن معظم المدارس الأهلية تعاني الكثير في مبانيها، ولا أعلم كيف صُرِّح لها بأن تزاول مهنة التدريس في مبانٍ غير مؤهلة، ويمثل الزنك المعدني جزءاً كبيراً من أسوارها ومبانيها، وما هي المواصفات التي طُبقت عليها للتحقق من أهليتها كمبان دراسية. ويأتي المرتكز الثاني، وهو المدرس، وهو العنصر الفعال في العملية التعليمية، وحلقة الوصل بين المنهج والطالب. فبناء المدرسة أمر يمكن القيام به، لكن بناء مدرس كفء أمرٌ ليس بالهين، والواقع الذي نعيشه نحن الآباء شهيد على مرحلة يعاني فيها التعليم العام والخاص من قصور وتراجع كبير في مستوى التدريس، وهو تراجع يعود لضعف تأهيل المدرس، وهو شيء متوقع؛ لأن معظم المدرسين من الخرجين الجدد الذين لم تتح لهم الفرصة لاكتساب خبرات ومعلومات، فضلاً عن عدم توافر آليات لإكسابهم معارف جديدة، وإن كانت هناك بعض الدورات إلا أنها في الغالب لا ترتبط بالمنهج؛ وبالتالي لا تزيد في حصيلة المدرس المعرفية الكثير، والمتضرر في النهاية هو الطالب؛ وهذا ما جعل موضوع الدروس الخصوصية ينشط ويزدهر؛ لأن من يقوم بها هم أساتذة وافدون من دول عربية، ومعظمهم من ذوي الخبرة في المجالات العلمية، وهذا يقودنا إلى ضرورة أن يعاد النظر في موضوع سعودة التعليم؛ لأن التعليم بحاجة إلى وجود خبرات، وخصوصاً في المواد العلمية، وهنا يمكن أن تستمر السعودة، ولا بأس أن نستعين بالعنصر الأجنبي المؤهل، ويوضع له برنامج واضح ومحدد لنقل الخبرة والاحتكاك مع المعلم الشاب إلى أن يعتمد على نفسه، وبذلك استفدنا وأفدنا، وبطريقة حضارية، فالتعليم من المجالات التي تحتاج إلى استشارات وتبادل خبرات واطلاع مكثف ومستمر، ومواكبة لكل ما يستجد في حقل التعليم مما له صلة بالمنهج، وهذه مهمة شاقة، والأمم تتمايز بمستوى رقي التعليم فيها؛ ولذلك يجب التركيز على بناء المدرس قبل الطالب؛ فهو بيت القصيد. ويمثل المنهج لب العملية التعليمية التي يسعى المخطط والمعلم إلى إيصالها للطالب؛ ليستطيع فهمها ومن ثم استيعابها بكل يسر وسهولة. ولكن - أقولها بكل أسف - معظم مناهجنا لا تؤدي الغرض المنشود منها؛ لأنها معدة بطريقة لا يجدي معها إلا الحفظ، بدليل خلو معظمها من صفحة تتصدر المنهج، تحدَّد فيها الأهداف من المنهج، فليس من المنطق أن يُقرَّر الكتاب بكامله على الطالب في ظل اتفاقنا على ضعف مستوى المعلم؛ وبالتالي فإن التركيز على مجموعة من الأهداف التي تحقق مستوى معيناً من الاستيعاب لدى الطالب أجدى من إلزام الطالب بالكتاب كاملاً، ومن ثم نخسر كل شيء. ويمثل الطالب غاية العملية التعليمية، ومقصدها الأخير، وإعداده ليكون مواطناً صالحاً ومتعلماً في الوقت نفسه يحتاج إلى حرفية ومهارة وعمل ممنهج، ويبقى الأسلوب هو المحك في عملية الاتصال بالطالب وتحقيق التفاعل الأمثل معه واستقبال ردود أفعاله على ما يتلقاه من علوم ومهارات، وتصحيح سير العملية التعليمية بناءً على ردود الأفعال تلك يمثل قمة النجاح للمؤسسة التعليمية، وتبقى الإدارة الفاعلة هي العنصر الفاعل في تحقيق التناغم بين العناصر التي تمثل مرتكزات العملية التعليمية، وقبل كل شيء لا بد من المحاسبة والصراحة والمكاشفة ومكافأة المنتج ومعاقبة المقصر، وتصحيح الأخطاء أولاً بأول، والتقييم المستمر لكل ما يمت للمناهج بصلة، واستبعاد كل ما من شأنه الإخلال بعملية التحصيل العلمي أو الانحراف بالمنهج لغير ما صُمم له. وللحديث بقية.