رمضان زيدان قد تجد بين خلق الله من العالمين نماذج تدعو إلى العجب العجاب من بني البشر، قوم يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا. فترى من هؤلاء الكائنات من يزج بنفسه زجاً ويحشرها حشراً بين صفوف النبلاء وأصحاب الشيم من الكرام واهماً أنه من نبعهم يستقي وإلى أصلهم ينتمي، فيقف بين جموعهم ملوّحاً بشعارهم وصارخاً بمُثلهم، ولكن هيهات لهذا الكائن النكرة أن يعلو إلى شأن العظماء، وأن يسلك درب النجباء والمكرمين، لأن هذا المغتر المرائي لا يعلم أن الوقوف بين هذه القامات وتلك الهامات لا يكون إلا بأصل إنساني وخُلقي ضارباً بجذوره في تربة طيبة صالحة بين أصقاع الجنس البشري، إن هطل عليها المطر أنبتت، وإن لم يصِبها وابل فالطل كافٍ لإنباتها لتخرج علينا بمُثلٍ تعلو وتظلنا بظلها الوارف ذي الأصل المتين. أما هذا الذي يظن أنه أوتي فكراً وعلماً دأبه في ذلك النصح والإرشاد بمناسبة وغير مناسبة للخلق من حوله، وكأنه لا يقرب خطأً ولا يقترف معصية، متلذذاً بشهوة الحديث والثرثرة والظهور، وهو في كثير من الأحيان يقول ما لم يفعل، فتجده إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا خاصم فجر من كان معه فكراً وقولاً وعملاً وقلباً وقالباً، فهو من أخلص الناس وأعلمهم وأفضلهم وأحسنهم أخلاقاً على الإطلاق بلا منازع ولا شريك، وهو بذلك يكون على جادة الطريق المستقيم، أما من خالفه رأياً أو فكراً أو وجهة هو موليها، فهو من أراذل الخلق وأحطهم منزلةً، مسفهٌ لدى النخبة من أرباب الفكر الحنجوري، ومنبوذ لدى المتفيهقين، وعليه من فوره أن يُستتاب، إن وقّرته فهو واجب من الواجبات عليك أن تبذله تجاهه، وليس ذلك بمنةٍ منك عليه فهو الرجل الصائب دوماً صاحب الفكر الرفيع والرأي السديد الذي لا يضاهيه رأي والحجة التي لا يرقى إليها أحدٌ غير أبناء عشيرته من ذوي الرؤية الثاقبة والهادية إلى سواء السبيل. وتراه في كثير من الأحيان أيضاً يعدد مزاياه على مسامع الشهود والعيان مختالاً بصولاته وجولاته التي افتعلها طوال حياته حتى يُخيّل إليك أنه يرددها أثناء نومه وهو لا يمل من التباهي على الدوام بأنه أنفق وأعان وساعد وهو على هذا الدأب طوال حياته يسير. ألا يعلم هذا الجاهل السفيه أن الدين الذي يتمسح فيه وهو من ريائه براء ذكر في نصه القرآني الكريم ((قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى))، فيعلمنا النص العظيم أنه بمجرد أن تتحدث بمعروفٍ وتخالق الناس بخلق حسن يتسم بالإخلاص فقط دون افتعال أو رياء مقدم، فإن ذلك هو خير من نفقة يتبعها أذى لمشاعر خلق الله، ومنٌّ وكبر وتعالٍ عليهم، وهو الذي يتشدق على الدوام بالمُثل العليا والأخلاق الرفيعة ويتظاهر بهما أمام العالمين، فهذه الخصال المفتعلة والحركات الموجهة للكاميرات والعيون رياء لا تعدو عنده إلا أن تكون مجرد حديث ثرثار وتنطع فارغ وكلام رنان دون فعل فحواه ومدعاة الإخلاص والنفع الجاد دون التظاهر بالرياء والسمعة ومجرد من أي عمل واقعي يهدف إلى غرس النبيل من الصفات، وقد حدثني صديق عن هذه النماذج المعيبة أن شخصاً ما ممن هم على تلك الشاكلة دعاه للعمل معه من خلال منظومته الفكرية التي اختزل فيها كل حميدٍ ومجيد من وجهة نظره القاصرة والمتقوقعة على نفسها، التي تطوف حول ذاتها ممجدة فكرها الهُلامي بوازع من غطرسةٍ وداعٍ من غرور، فسولت له نفسه الأمّارة بالسوء التي اجتمعت لها كل صفات النبل والكمال واليوتوبيا المثالية الخالية من كل عيب والمنزهة عن كل نقص، أن ما خلا ذلك من توجهٍ وفكر فهو وضيع ولقيط، فاعتذر له صاحبي معللاً ذلك بأن طبيعته تستنكف أن تتلقى الأفكار والتوجهات دون مناقشة حول ماهيتها والاقتناع بنزاهتها ونبل غايتها، فإذا بهذا النكرة المغتر بعقله وما حوى يهاجمه أيما هجوم قائلاً له أدرك نفسك قبل أن تموت على ما أنت عليه، وكأنه بخطابه المتعالي الخالي من الحد الأدنى للياقة والذوق يحدّث أحد الجاهلين من عبّاد اللات والعزى قبل ألف وأربعمائة عام، فانظر بالله عليك إلى أي درجات السفه والعتو والانحطاط العقلي والتوجه البرجماتي قد وصل صاحبنا المغتر الداعي لمبادئ حنجورية. وهو من هو في اقتناص الفرص لبلوغ كل مأربٍ دنيوي بمقايضة تتوافق بها مصالحه ولو على حساب أبيه وأمه وأخٍ له من قبل، ولكن هذا الأفاك المغرور الذي هو من التصنيف الفئوي لشراذم الذين يقولون ما لا يفعلون ويكيلون فلا يعدلون على حسب التوجه المصلحجي الخاص بهم، ربما يكون لديه من العذر ما يحفظ له ماء وجهه، كأن تكون المقايضة مغرية وتستحق أن يضحي من أجلها ليفوز بصهرٍ أو قربى ويُجاز بنفعٍ أو زلفى وحسن مئاب من أصحاب الأعمال والأموال، وحسبه من ذلك قول الشاعر: - لا تبارح ولا تمد جسور تطبيع المصالح ولو أمّروك ولو توّجوك ولو أجلسوك على هام عرشٍ من العسجدِ ولو أنشدوك نشيد التحدي وصالوا وجالوا وكالوا مديحا بأنك بطلٌ مع الموعدِ .. - هل ضاع من عينيك ثأرا في الكرى وتمرغ الأنف الأبيُّ على الثرى.. - لو أنما جاءك الأبناء يوما بالسؤال على أخيك ماذا تقول وأنت في أرض الفدى إفكا شريك ماذا تقول وأنت رمز للشموخ على الصدارة يا أخاه.. بما تجيب على بنيك - أتشرب نخباً وتنسى أخاك بالله قل لي ماذا دهاك وأي شيطان دعاك؟ لكي تغض الطرف تسويفاً وإنكاراً للحقائق والثأر يصرخ في أجنّتنا خلائق قد تشوّهه وجهها بين الضباب والاغتراب ولم يعد فيها ملامحوهكذا نرى نموذجاً بشرياً حنجورياً أفّاكاً يحب أن يُحمد بما لم يفعل، فالحذر كل الحذر من هذه الآفة البشرية.