كان: محمد رُضا مساء اليوم، السبت، حفل توزيع الجوائز التي تنطلق في الساعة السابعة وتستمر، عادة، لساعة أو أكثر من ساعة بقليل. مخرجان من الذين فازت أعمالهما بالسعفة الذهبية في السنوات العشر الماضية من بين أولئك الحاضرين بانتظار إعلان النتائج: البريطاني كن لوتش، الذي سبق له وأن خطف السعفة الذهبية سنة 2006 عن «الريح التي هزت الشعير»، والذي قدم هنا «قاعة جيمي» والأخوين داردن اللذين فازا عن «الطفل» في العام السابق له وعرضا هنا فيلمهما الأحدث «يومان وليلة». إنه الاشتراك الثامن عشر للمخرج البريطاني لوتش، منذ أن حضر للمرة الأولى سنة 1970 عن فيلمه «Kes»، الذي جرى تقديمه آنذاك خارج المسابقة. من هذه الأفلام خمسة حصدت جوائز المهرجان الفرنسي هي «نظرات وابتسامات» (1981) و«مفكرة مخبأة» (1990) و«تمطر حجارة» (1993) و«الريح التي هزت الشعير» (وحيدها الذي نال السعفة 2006) و«حصة الملائكة» (2012). في الطرف الآخر الأخوان جان - بيير ولوك داردن، اشتركا أول مرة سنة 1987 وعادوا في كل مرة بعد ذلك. ثمانية اشتراكات معظمها في المسابقة وأربع جوائز، منها اثنان السعفة الذهبية ذاتها وهما «روزيتا» (1999) و«الطفل» (2005). بذلك، إذا ما حقق لوتش السعفة فستكون المرة الثانية التي يفوز بها بالجائزة الأولى، إما إذا ما حققها الأخوان داردن فإنها ستكون المرة الأولى في تاريخ المهرجان الذي يفوز بها مخرج (أو مخرجان معا) بالسعفة للمرة الثالثة. * غودار.. ذلك التيه لوتش والأخوان داردن، هما من الأسماء الحاضرة التي يتكهن البعض، بطبيعة الحال، بفوزهما. لكن هناك سينمائيون آخرون يرقصون حول الشمعة كالفراشات السعيدات بالضوء. البريطاني الآخر مايك لي لديه حظ عال عن فيلمه الذي يراه فريق كبير أفضل المتوفر، وهو «مستر تيرنر». والتركي نوري بيلج شيلان، الذي لم يفز بالسعفة بعد، لكنه فاز بأصغر منها سابقا، ربما نفذ هذه المرة إلى السعفة بسبب من فيلمه «نوم شتوي». ثم لدينا اليابانية ناوومي كواسي عن فيلمها «جمد الماء» والروسي أندريه زفجيانتزف، الذي عرض مساء أول من أمس، الخميس، فيلمه الجديد «حوت أيوب». باقي الأفلام فيها أكثر من حاجز يحول بينها وبين السعفة، سواء تحدثنا عن «مومي» للفرنسي أكزافيه دولان أو «وداعا للغة» لجان - لوك غودار أو «البحث» للفرنسي الآخر ميشيل هازانافيشوس أو أي من الفيلمين الكنديين المشتركين «خارطة للنجوم» لديفيد كروننبيرغ و«الأسيرة» لأتوم إيغويان. هذا لا يعني أن أيا من هذه الأفلام أو سواها قد لا ينفذ إلى جوائز المهرجان، إن لم يكن في خانة الأفلام ذاتها، فلربما في خانة التمثيل أو في خانة الكتابة أو الإخراج. ما يوفره للإمعان هو ذلك البون الشاسع بين الأساليب المستخدمة تحت سقف الطموح لتقديم عمل يحافظ فيه المخرج المؤسس على مكانته، ويحتل فيه المخرج الجديد جزءا من تلك المكانة. أكثر تلك الأساليب اختلافا وإثارة للاهتمام ذاك الذي وفره الشاب ابن الثالثة والثمانين جان - لوك غودار في «وداعا للغة». شاب لأن من هم أصغر منه سنا لا يمكن لهم الخطو إلى حيث يقف بثبات. آخر الطليعيين الفرنسيين من أبناء الموجة الستيناتية الجديدة وأكثرهم تمسكا بممارسة أعمال لا هي روائية ولا هي تسجيلية ولا هي مزج بين الاثنين إن وجدا، بل سرد بالصور والكلمات المركبة على تناقض ومن دون التئام لتقول أشياءها حول العالم والحياة التي نعيش من وجهة نظر محددة تعكس موقفا نقديا حادا حيال الإنسان الحاضر وغياب الأخلاقيات والآيديولوجيات وسقوط كل شيء على الأرض أو - كما في مشهدين - في مرحاض الحمام. أول فيلم للمخرج السويسري غودار بالأبعاد الثلاثة (وآخرها بكل تأكيد) لكن هدفه ليس التمتع بالنظام الذي يقرب المشاهد من الأشياء ولا الإمتاع به، بل ممارسة المزيد من الحدة والتناقض. في فيلمه هذا كل هاجس يضعه بال غودار على الشاشة. يتحدث عن الأدب والكتابة (دستويفسكي، باوند، ماري شيلي) وعن الموسيقا (التي نسمعها أيضا) والفن عموما (ميريام هوبكنز) وعن الماء والطبيعة والأشجار ولا ينسى هتلر ولا تصوير بطليه عاريين معظم الوقت. ثم هناك الأصوات والتعليقات: جملة من المتحدثين (غالبا بعيدا عن الكاميرا) في كل ما سبق وسواه. غودار أشرف حتى على العناوين المتعددة وكيف ستظهر على الشاشة، فهناك عناوين كبيرة (تتكرر) فوق عناوين، وعناوين حوار وعناوين تعليق ولكل طريقته في الظهور. والأصوات الناطقة بها لا تتوقف. ومع أن معظم المشاهد مصورة أو مصنوعة لاحقا بنظام الأبعاد الثلاثة، إلا أنه إذا ما خلعت النظارة وجدت بعضها عاديا. إذا كان لا بد من الحديث عن قصة، فليس لهذه وجود، لكن هناك خط لسرد الفكرة يتلخص في لقاء بين رجل وامرأة يتبادلان الحديث حول كل ما سبق، والرجل هو الذي يصل إلى نتيجة أن الكلاب هي الطبيعية وحدها كونها عارية. في خلال ذلك، يصور غودار كلبا في غاية من الأشجار. يشم ويبحث. الوحيد الذي لا يزال يمارس دورا طبيعيا في الحياة؟ غودار مخرج مفكر يودع أفكاره في أفلام ذات معالجة من الخصوصية، بحيث لا يهم تحليلها. هي دفق من اللقطات والمشاهد غير المتجانسة والناقد عليه أن يكون مستعدا للكتابة عنها من زاوية مختلفة تماما عن تلك التي يكتب من خلالها عن الأفلام الأخرى ويعاينها. إذا لم يستطع، فإن هذا مفهوم (ولو أن الكثيرين يدعون أنهم استطاعوا). على كل ذلك تستشف علاقات بين هذا الفيلم وسوابقه، وبين أي من أفلام غودار ومعظم ما حققه سابقا. في فيلمه الأول «نفس لاهث» (1960) هناك مشهد طويل من الفيلم لجان - بول بلموندو وجين سيبرغ في غرفة واحدة يتبادلان طويلا الحديث بالنبرة والإيقاع ذاتيهما، كما الحال هنا بين ممثليه. في جزء لاحق من هذا الحديث يحاول بلموندو ممارسة الحب مع صديقته فتأبى. الحب لا يتم. هذا يحدث هنا عندما يحاول الرجل تقبيل المرأة تمهيدا متوقعا لفعل عاطفي، لكنها تمتنع وتوقف المحاولة عند حدها. على نحو مخيف، يسجل المخرج انهيارا في القدرة على التواصل بين البشر (عنوان الفيلم) على أي نحو ممكن. لذلك ينجح في تجسيد هذا التسجيل عبر كلمات تعلو كلمات وصور فوق صور وخليط من اللقطات والأصوات التي لا ترتيب لها سوى في بال مبدعها. فيلم رائع ضمن حدوده وتبعا لمنهجه لكنه - على الأغلب - ليس المنهج الذي تبحث عنه لجنة التحكيم بيتا لسعفتها. هل هو الفيلم الذي يستطيع بعض أعضاء اللجنة الدفاع عنه طويلا؟ المتابع للمهرجان قد يتوقع أن الممثل والمخرج المكسيكي الشاب غايل غارسيا برنال والممثل الأميركي وليم دافو لديهما من حب للمغامرة الفنية ما يوعزهما لتأييد هذا الفيلم، لكن ماذا عن الباقين من أمثال الممثلة الكورية جيون دويوين والفرنسية كارول بوكيه والصيني جيا جانغي؟ ثم ماذا عن الأفلام الأخرى التي جرى تداولها في الأيام القليلة السابقة؟ ساعات قليلة وتكشف النتائج عن كيف توجهت اللجنة وما الذي اختارته. * أفلام اليوم * نظرتان نقديتان إلى روسيا من الداخل والخارج * وكن لوتش يمارس خطابه السياسي بوضوح Leviathan(4*) لا يوجد سبب واضح، لكنه في كل مرة يختار فيها مهرجان «كان» فيلما روسيا (وفي السابق سوفياتيا) فإن موعد عرضه يأتي في أحد الأيام الثلاثة الأخيرة، وعادة في اليوم ما قبل الأخير. في المقابل، إذا ما كان هناك فيلم أفريقي (كما الحال هذا العام عبر فيلم «تمبكتو» لعبد الرحمن سيساكو وفي العام الماضي عبر «غريغريز» للصومالي محمد صالح هارون، فإن عروضه تأتي مبكرة (في اليوم الثالث عادة) من أيام المهرجان. لكن هذا هو الحال وكان علينا أن ننتظر وصول فيلم المخرج أندريه زفيغانتزف الجديد «ليفياثن». الكلمة واردة من العبرية وتعني الحوت الكبير (كما حوت النبي يونس) أو - على نحو أحدث - السفينة الضخمة. وهناك مشهدان، بينهما أحد اللقطات الأخيرة، لهيكل عظمي ضخم لحوت ربما مات على الشاطئ منسيا، إذ إن هيكله لا يزال قائما هناك. الفيلم بذاته يدور على شاطئ البحر. بلدة ساحلية اسمها كولا في شمال غربي روسيا. هناك لقطات تنتقل من البلدة ذاتها إلى منزل الشخصية الرئيسة في الفيلم، وهي شخصية كوليا (أليكسي سيريبياكوف)، الذي يملك منزلا متواضعا على مقربة من البحر يعيش فيه وزوجته ليليا (إيلينا ليادوفا) وابنه روما (سيرغي بوخودييف). في أحد الأيام يصل المحامي الموسكوفي دمتري (فلاديمير فدوفيتشنكوف) ليساعد كوليا في نزاع قضائي، فالمحافظ (بدين وسكير وشرس يمثل حكوميين فاسدين ويؤديه جيدا رومان ماديانوف) يريد وضع اليد على المنزل، مستخدما مزيجا من الأدلة الواهية مفادها أن كوليا لا يملك الأرض التي بنى عليها بيته. المشهد الذي تتلو فيه القاضية الحكم المؤيد لدعوى المحافظ رائع: نشاهدها واقفة تتلو بكلمات لا حس فيها ولا تعابير ولا هي منطوقة بإيقاع إنساني، بل بروتينية آلية لا تتوقف حتى عند الفواصل والنقاط، القرار المؤلف من صفحات كثيرة لا يهم فيها سوى نتيجة الحكم في النهاية: على كوليا وعائلته مغادرة البيت. هذا المشهد يتكرر قرب نهاية الفيلم: القاضية ذاتها تحكم على كوليا بالذنب وتودعه السجن 15 سنة بتهمة لا إثباتات دامغة فيها هي تهمة قتل زوجته. ما بين المشهدين الواصمين أيضا لنظام حياة في عهد بوتين لا تتحقق فيه العدالة هناك.. قصة إنسانية كاملة لساعتين ونصف تقريبا. كوليا يحب زوجته وزوجته تخونه مع المحامي. كوليا يضرب المحامي الذي يعود أدراجه إلى موسكو ويحاول إصلاح البين مع زوجته التي تبدو كما لو أنها تعلمت درسا لن تنساه. لكن الصبي روما لا يسامحها. ذات صباح تستيقظ وتلجأ إلى أرض مرتفعة مباشرة عن البحر. تلقي بنفسها. بعد ثلاثة أيام يجد البوليس جثتها وتدور الشبهة حول الزوج فيلقى القبض عليه. قبل ذلك وبعده، نرى الزوج يواصل شرب الفودكا. كلهم يشربون الفودكا للنسيان وتعبيرا عن الإحباط والحيرة. لقاء بين كوليا والخوري الأرثوذكسي يسأل فيها الأول الثاني عن الله والإيمان، ولماذا يحدث معه ما يحدث معه. لا جواب وهذا ما يهوي بكوليا إلى حضيض نفسي عميق آخر. كوليا لا يستطيع اللجوء إلى دين يراه فقد معناه، ولا إلى عدالة القانون الواقعة تحت فساد الإداريين. كل ما كان يستطيع الدفاع عنه (عائلته ومنزله) ذاب في غضون أيام قليلة وها هو يدخل السجن. المشهد الذي نرى فيه هدم الآلة الضخمة («ليفياثن» زمانها) للبيت مخيفة. الكاميرا تكمن في داخل البيت مقابل الجدار الذي ستدمره الآلة. وعندما يدمر ذلك الجدار تبدو تلك الآلة مثل وحش يدخل عش طائر ليهدمه. نرى ذلك «البولدوزر» التايتانيكي وهو يستدير يمينا ويسارا، كما لو أنه يبحث عما يلتهمه، ثم يضرب المزيد من دعائم البيت. اللقطة الأخيرة هي لبقايا الحياة: قوارب صيد مهجورة، سواحل نائية. بحر حزين وهيكل لذلك الحوت الذي مات قبل البشر منسيا. The Search(2*) هذا هو الفعل الأفضل للنقد، من ذلك الذي مارسه المخرج الفرنسي ميشيل هازانافيشوس في فيلمه المتأرجح بين العواطف القصوى «البحث». نقد «ليفياثان» يأتي من الداخل، مجسدا آهات الإنسان لأحوال تغيب فيها العدالة الاجتماعية. والأشرار فيه (ممثلون أساسا بالمحافظ ذاته) هم شرائح واقعية لديها ما تخشاه ثم أساليبها العنيفة في تحقيق غاياتها (يقوم رجاله بضرب المحامي وتركه مقيدا في منطقة نائية)، لكن كل ذلك بأسلوب فني رائع تلتهم فيه الكاميرا (وراءها ميخائيل كريشمان) كل شيء لتصيغه جمالا موحيا هو بدوره خافت الوتيرة حتى لا يتناقض والدلالات التي ينجزها الفيلم عن حياة محبطة وكئيبة. على العكس، يوفر المخرج الفرنسي، رابح الأوسكار عن فيلمه السابق «الفنان» ميشيل هازانافيشوس، نظرة عاطفية في نقدها للروس، وعلى نحو تعميمي فاشل في منحاه كما هو فاشل في نتائجه. للأسف كانت لدى هذا المخرج المفتعل فرصة لتحقيق عمل رائع حول صبي شيشاني شهد قيام الجنود الروس بقتل والديه (خلال الحرب الروسية على شيشينيا) وقرر الهرب هو وأخوه الرضيع سريعا قبل دخول أحد الجنود بحثا. الفرصة الضائعة كانت فرصة الالتزام بتلك البداية وأهوالها داخل الصبي الصغير حجي (لعبه بطلاقة وعفوية غريبة عبد الحليم مارماتسييف) ومتابعة رحلة الصبي في أهوال تلك الحرب. لكن المخرج، الذي وضع السيناريو بنفسه، مستوحيه عن فيلم حققه الأميركي فرد زنمان سنة 1948 بالعنوان نفسه، عمد إلى سرد حكايتين متوازيتين: الأولى (بلا ترتيب) للشقيقة الكبرى التي نجت من تلك الجريمة وآلت على نفسها أن تكون «الباحث» في العنوان ذاته، والجندي كوليا (أيضا ويقوم به ماكسيم إميليانوف)، الذي يتعرض طويلا لعنف رفاقه وإهانة من هم أعلى منه رتبة (صفعا وضربا دمويا ونكات ساخرة) إلى أن يقرر الانتقال من صنف الضحايا إلى صنف المفترسين. خلال معركته الحية الأولى يقتل مدنيين أبرياء ويخاف، لكن وسط تهليل الجنود الآخرين يدرك أنه حقق الوثبة إلى المكانة التي ينتظرها ويتحول إلى نسخة من الآخرين. يكاد المرء أن يقبل بهذا النقد الحاشد ضد الروس، لولا أن معظمه يصب في بحر من المواقف النمطية في تصويرها. في المقابل هناك عاطفة ساذجة موجهة إلى شخصية مسؤولة مكتب للاتحاد الأوروبي للعناية بالمدنيين. إنها فتاة شابة اسمها كارول - بيرينيس بيجو بطلة «الفنان» - تصرخ على الهاتف، مستجدية الاهتمام من قبل مسؤوليها. هذا في الوقت الذي يلجأ فيه حجي إلى البلدة ذاتها. يدخل أولا مكتب لهيئة اجتماعية أخرى تديرها هيلين (الأميركية أنيت بانينغ) ثم يهرب من هناك ليلتقي بكارول التي تصحبه إلى بيتها للاهتمام به. المشاهد المدنية بأسرها أفضل من تلك العسكرية التي تبدو مقحمة، رغم أنها ستلتقي في النهاية مع الحدث الذي انطلق منه الفيلم. لكنها أيضا مشاهد لا تخلو من التكرار وقدر كبير من التطويل. كارول تحب هذا الصبي الذي لا يفقه لا الإنجليزية ولا الفرنسية (بطبيعة الحال)، لكن ذلك لا يوقفها عن الحديث إليه بالفرنسية كما لو كانت تتحدث إلى مواطن لها. لا تتوقف لكي تستعين بإشارة (إلا مرة واحدة) ولا تحاول أن تستدرج ردا بل تطرح فقط. في خلال ذلك، ها هي شقيقته رايسا (زهرة دويشفيلي) تصل إلى البلدة ذاتها وتدخل مركز الهيئة، حيث تكسب تعاطف هيلين، ومن هنا تدرك أنها ليست سوى مسألة ساعة أخرى من الفيلم قبل أن تلتقي بشقيقها في نهاية المطاف. Jimmys Hall(3*) أيضا حول حال الإنسان في هذه الدنيا فيلم «قاعة جيمي» لكن لوتش. والتسلسل الحاضر أمامنا أن فيلم زفيغانتزف يقبع في الحاضر بينما فيلم هازانافيشوس يعود إلى الماضي غير البعيد، في حين أن فيلم كن لوتش يرجع عقودا إلى الوراء ليقدم قصة حقيقية تقع أحداثها سنة 1933. حكايته مقتبسة عما مر به آيرلندي اسمه جيمس غرالتون قامت الحكومة الآيرلندية بنفيه من آيرلندا، علما بأنه مواطن آيرلندي. هي المرة الوحيدة في التاريخ التي أقدمت فيها آيرلندا على استبعاد مواطن لها وإذ أحاط المخرج علما بهذه الواقعة سارع للعدول عن قراره بالاعتزال كان عبر عنه قبل نحو عامين. تبدأ الأحداث قبل عام واحد من ذلك القرار، لكن خلفيتها تعود إلى ما قبل ذلك بأعوام، فمن بعد الحرب الأهلية التي وقعت في العشرينات فر جيمي (باري وورد) إلى الولايات المتحدة، ثم عاد منها بعدما وضعت تلك الحرب أوزارها (وعلى سنوات محدودة). سبب مغادرته البلاد كان إنشاؤه ما يشبه المدرسة المفتوحة للشبان لكي يمارسوا ألعابا رياضية أو ليتابعوا دراسات فنية وللرقص على أنغام الموسيقى غير الآيرلندية، ذلك لأن البيئة الكاثوليكية الحاضنة وجدت أن الموسيقى من عمل الشيطان وثارت على الرجل الذي قرر الابتعاد إلى أن عاد، سنة 1932 ليقيم مجددا في تلك البلدة وليعتني بأمه الكليلة. إلى ذلك، عاد إلى تلك القاعة المهجورة وأعاد افتتاحها وباتت من جديد ملاذا للمثقفين والشبان الراغبين في الانعتاق من الثقافة الممنهجة للكنيسة مما يثير الكنيسة أكثر ويجعلها تنتقل من التهديد إلى التنديد والتأليب. هذا يزداد وقعا عندما يجد بعض اللاجئين في قاعة جيمي مكانا مناسبا للقاءات سياسية يجري فيها بحث أوضاع اجتماعية مزرية. لوتش مستعد لأن يوقف عجلة الأحداث لأجل نقل مفصل تسجيليا لمناظرات المتحدثين. ينتقل من وجه إلى وجه، تاركا ممثليه يقاطعون بعضهم بعضا حينا ويستمعون منصتين حينا آخر. فعل ذلك في أفلامه السابقة ويفعلها هنا. صحيح أن هذه المشاهد تأتي تلقائية المعالجة كما لو أن الكاميرا كانت في نقاش حقيقي بالفعل، لكن لا جديد تضيفه إلى الأحداث وبل هي تأخذ منها حين تستبدل ما كان يمكن له أن يرد صوريا بتلك المناقشات. ما ينجح لوتش في فعله هو تقديم حكاية حب مساندة بين جيمي والفتاة التي تركها بعد قصة حب مبكرة وعاد إليها الآن ليجدها قد تزوجت. هذه تبقى منتمية إلى السياق على نحو أفضل. لوتش يبقى هنا اليساري الذي يدافع عن رؤيته السياسية كما حال جيمي عن رؤيته الثقافية والكنيسة الكاثوليكية عن رؤيتها الدينية، لكن موقع القلب ليس توافقيا بل ينتمي الفيلم إلى المخرج الذي يرى، مثل بطله، أن الكنيسة والدولة هما وجهان لكيان واحد يرفضه.