النسخة: الورقية - دولي أنصفنا التاريخ في جاهليتنا وإسلامنا، كبدو وحضر، بما زهونا به على الأمم وما زلنا. ففي جاهليتنا كنا بذرة صالحة لكل خير، وتمتعنا بمعدن أصيل تجلت فيه ملاحم شجاعة عنترة وكرم حاتم وحمية عمرو، في وقت كانت الأمم ورثة الرسالات تتخذ الضلال ولؤم الطبع سبيلاً. نعم كان لذهبنا ما يشوبه، لكنه في النهاية ذهب ما أن صُهر في بوتقة الإسلام حتى أنتج خير حضارة للعرب والبشرية أضاءت الكون، بعد انطلاقها في زمن قياسي. كانوا قريبين الى الفطرة، فما كاد الوحي يلامس أثيرهم حتى أثر فيهم فحملوه إلى الدنيا ممتثلين ومتمثلين. كل هذه حقائق لا تنكر، لكن الغريب أن تتوج هذه المقدمات بما نشهد من نتائج. ثمة الكثير من العوامل الذاتية والموضوعية لدى الطرفين (العربي والاسرائيلي) أودت بنا الى هذا التناسب العكسي، ولسنا هنا بصدد سرد أو عرض الأسباب التي أشبعت درساً وتفنيداً، لكن الواقع يقول إنه رغم تدنينا إلا أننا لسنا أسوأ منهم خلقاً، ففي ثقافتهم لا مكان للتسامح ولا للحلم أو التضحية ولا للزهد في الدنيا، ولا التكافل، فمجتمعهم متصارع بين شرقي وغربي ومتدين وعلماني، وروسي ومغربي، وحتى في داخل كل فئة تنخر التناقضات، بل وحتى كل شخص يتعامل بعدوانية وندية مع المحيط تساوقاً مع الفلسفة التي تقول ان «الإنسان ذئب بطبعه»، وبناءً عليه ففي ثقافتهم إذا كان بمستطاعك أن تعربد ولم تفعل، أن تسرق، أن تنتقم، أن تحتال بعيداً من طائلة القانون ولم تفعل فأنت أكثر من ساذج. غريب! كل هذا فيهم وهي بذور فناء للأمم، إلا أنهم يواصلون مرحلة العلو والنفير والاستكبار. لعل الفارق بيننا وبينهم أنهم استفادوا مما وصلت إليه الأمم الأخرى من علوم وخبرات ونظم، إذ بدأوا من حيث انتهى العالم، فيما نصر على أن نبدأ من البداية، منتظرين حتى يظهر فينا عمر ليقوم العدل، بينما هم يبنون المؤسسة التي تكون أكثر عدلاً أو أقل ظلماً، فلديهم مبدأ تداول السلطة والمشاركة في الحكم وقبول الآخر بما تمليه عليهم المؤسسة، ومع أنهم بلا دستور إلا أنهم بنوا دولة على تعدد حقيقي وفصل للسلطات، فسيف الانتخاب مسلط على رقبة أي حكومة، حتى قال فيهم وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر: «إسرائيل الدولة الوحيدة التي ليست لديها سياسة خارجية بل سياسة داخلية»، لذلك فالكثير من حروبهم وخطواتهم الإستراتيجية منبعها المصلحة العليا للدولة. نظامهم ليس الأمثل فهو على الدوام قابل للتغيير والتطوير ولا يخلو من العيوب، إلا أنه أثبت جدارة وقدرة على الإستمرار، فلديهم تعدد حزبي وتنافس لكسب ثقة الجمهور وصولاً إلى عضوية الكنيست (البرلمان). من الجيد أن يكون ضمير الإنسان قائده فيحاسب نفسه، لكن ذلك لا يكفي لأن تدار الدول وتسير الحكومات، بل ولا يصح قانوناً أو عرفاً، فالضمير والأخلاق تتفاوت التزاماً بل وحتى تعريفاً من شخص الى آخر، ما يعني أن الدولة يجب ان تبنى على أساس الشفافية والمحاسبة ولا مركزية السلطات، كما في النظم الشمولية، فالدولة دولة مؤسسات تقوم بقيامها، وليست أفراداً تتشكل وفقهم، فالحكم المطلق فساد مطلق وإن أحرز إصلاحاً موقتاً، فالحكومات التي تقوم على أشخاص تنهار في غيابهم. قد نجامل أنفسنا فنقول نحن مسلمون أو حكومتنا إسلامية تمثل الإسلام منهاجاً ونظاما، لكن هذا الكلام في حاجة لإثبات على أرض الواقع، فنحن نحاول تمثيل الإسلام، قد ننجح أو نفشل، لكن فشلنا لا يعني فشل الدين الذي قام ويقوم بنا وبغيرنا، فعلينا تقبل الآخر والتعاون معه لما فيه خير الوطن والمواطن. فيجب أن نكون خدماً للدين لا أن نستغله لخدمة أهدافنا ومصالحنا وأهوائنا وكأن المسؤولية كهنوت لا يفقه أسراره إلا حضرة جنابنا ولا تليق إلا بذواتنا. إذا استمرت وحدانية القطب، أنا أو الطوفان، فلا فرق بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، لأننا سنظل نعيش الثورة باسم الثورة ولا صوت يعلو فوق صوت الثورة، لنلعن العهد البائد الذي امتدحناه وكنا نتقرب إليه زلفى، عوضاً عن كوننا إحدى أدواته التي ساعدت على بقائه ثم أسهمت في إفنائه. هذا ما كان في الماضي القريب، فالناصرية والقومية إجتاحتا عالمنا أيام عبدالناصر، وأين عبدالناصر اليوم؟ وشهدت فترة السبعينات والثمانينات ذروة وعزاً لأبو عمار، وأين هو اليوم من قيادات السلطة، بل وعناصرها، وفي التسعينات والألفين كانت «حماس». والبقية تأتي. أما في إسرائيل فللأسف بعكسنا تماماً، فالرؤساء والوزراء هم أكثر الناس انتقاداً لديهم بل وتجريحاً في حياتهم، فيما نجدهم يطرون على قياداتهم ومؤسسيهم نكايةً في الحاكمين اليوم، ويزينون برسومهم عملتهم ويذكرون الجيل المؤسس، هرتزل وايزمان بن غوريون رابين وغلدا مائير وشارون، كزعماء لأنهم صنعوا تاريخاً لأمتهم. تسمو الأمم عندما تقدس مبادئها ونظمها وأهدافها، وليس عندما تصنم شخصياتها وأحزابها.