لم يكن قرار القبول بأرامكو أمراً هيناً زمن الملك عبد العزيز. وما كان يخفى على بن سعود - رحمه الله -، مقاومة بعض قومه لها. وما كانت البيئة الإعلامية ولا البيئة الفكرية مؤهلة لاستعياب الناس بما سيأتي به البترول من خير وعزه لهم ولدينهم ولأبنائهم وأحفادهم. فأحسن - رحمه الله - ببعد نظره الاختيار، فاختار المستقبل الزاهر لشعبه، فاتخذ القرار الاستراتيجي الأهم في تاريخ الجزيرة، فكانت أرامكو. وبُعد نظر الملك الكبير لم يحجبه عن إدراكه لوعي الناس وأفهامهم، فأحسن سياسة حاضره فعزل أرامكو عن الناس، فجلست تعمل بصمت وعزلة حتى ظهر خيرها وعم نفعها. واليوم وبعد قرن من الزمان، قد يأتي الغر الصغير، فلا يرى عظمة القرار وحنكة تطبيقه، فقد اعتاد عليه كما اعتاد البشر على شروق الشمس وغروبها، فلا يستشعرون عظمة الظاهرة وجبروت خالقها. رحم الله المؤسس الأول، فقد كان استراتيجياً بعيد النظر، لم يلهه بُعد نظره عن رؤية ما بين يديه. وقد كان عجيباً في إتقانه لفهم زمانه، وتطويع متغيراته بما يرجع على بلاده وشعبه بالخير والازدهار في حياته وبعد مماته. وبقدر دهائه وذكائه في فهم زمانه، فقد كان المؤسس الأول بجانب ذلك فلتة من فلتات الزمان في تقدم فكره وإدراكه عن زمانه بمراحل ضوئية، إذا ما اُعتبرت حال العدم والجهل والتخلف الشديد التي كان عليها حال المملكة عند توحيدها. ومن يستشعر ويدرك حال البلاد وحال الناس وثقافتهم وأفهامهم زمن موحد الجزيرة، لم يصعُب عليه فهم هذا. فلله در ذاك القائد الفذ، كيف أحسن سياسية قومه كما أحسن سياسة مستقبلهم، فجمع شتاتهم في كيان واحد ثم بنى لهم مجداً وعزاً وخيراً أغناهم ورفعهم به على العرب، بعد أن ما كان للجزيرة العربية من مال ولا موارد إلا ما يتلقطونه من بلاد العرب والهند والسند. وها هو الزمان يعيد نفسه. فلعل الله قد اطلع على هذه البلاد، فرحمها أن يعود أهلها إلى شظف العيش ومهلكة المرض والعطش والجوع وذل التطفل على موائد العرب. فسخّر الله لها ملكاً لا تتملكه الأثرة بل الإيثار. مقت الملك الصالح الأنانية والأثرة ليومه فاستخبث قول من قال من العرب «إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر». ملك قد اتسع قلبه للبلاد كلها، فاستحسن قول من قال من العرب «لا هطلتْ عليّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظمُ البلاد» . حكيم بعيد النظر متقدم على زمانه في فكره وإدراكه، قد حمد قدر الله بما سخّر له من مجريات الأمور، وبما فتح على يديه من ثروات لأرض فوفى بعهده، فكان هذا الملك الحكيم الابن من ذاك الملك الحكيم الأب. ونعمة الحكمة سر لا يعلم مكنونها إلا الله فهو يهبها لمن يشاء، فكان مليكنا الصالح سر أبيه. ندرة هم العظماء، والعظيم من لا ينظر إلى يومه وزمانه وحظ نفسه، بل لغده ولزمان أحفاده ولحظ الأجيال القادمة لشعبه. نظرة الملك الصالح الاستراتيجية للمستقبل وإصراره ليكون زاهراً، بوأته بحق ليرتقي على كرسي مؤسس الدولة السعودية الحضارية الحديثة. والحكيم الفطن من يحسن التعلم من تجارب التاريخ لا من يستنسخ التاريخ. أدرك الملك الحكيم أن المستقبل هو العلم. فوضع البلاد على الطريق التقدمي المعرفي المستديم. ولكن الملك الحكيم لا يخفاه طول الطريق، والمسافر لا بد له من الزاد والمزاد لكي لا ينقطع به المسير. وفطن الملك الحكيم أن البلاد ستحتاج إلى أرامكو أخرى تُعينها لاستمرار نمط عيشها الرغد وما ترفل فيه من النعم ، فلا يُشغلنها الجوع والعطش والفقر عن التفرغ للتقدم في مناحي الحياة التنموية في جميع اتجاهاتها. لم يتجاهل الملك الفطن ما ستدفعه الأجيال السعودية القادمة إن أُهملت الإرهصات اليوم التي تحذر بأنّ الأجيال السعودية قد لا تجد ماءً تشربه، بعد ان اُستنزفت احتياطيات المياه الجوفية التي تجمّعت خلال آلاف السنين، ولن تجد الطاقة الكافية لتحلية المياه. بل وإنها لن تستطيع توفير الحاجة المحلية للطاقة مع الاستنزاف المستمر لثروة البترول لإنتاج الطاقة المحلية اليوم. والملك الصالح ذو إيثار مشفق على أجيال شعبه القادمة وعلى عزة ورفعة بلاده أن ينقطع عنها الخير فتعود إلى دوامة شطف العيش فتنشغل بها، قبل أن تقوم بنفسها معتمدة على عقول أبنائها. فلا بد من إيجاد ثروة لا تنضب بل تزيد، وما من شيء كهذا إلاّ ثروة العقل والعلم. فكان قراره كقرار أبيه بالأمس وحيداً، إلا أنه فريد في نسجه، استراتيجياً بعيد المدى عميق الفكر، فلله در الولد والوالد. ومن ليس في الديار فهواه منصرف عن الديار مُنشغل بغيرها، فكانت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في ديارنا. فكما كان حال أرامكو وحيدة منعزلة، فهكذا هي حال جامعة الملك عبد الله وحيدة منعزلة إلاّ أنها فريدة في نسجها. تعمل جامعة الملك عبد الله بصمت وعزلة، في دأب عجيب واجتهاد منقطع النظير وإصرار يحدوه الطموح والشغف المبني على أسس العلم والمعرفة. رحلة شاقة يقودها كوكبة من فطاحلة العلماء من جميع أنحاء العالم، ممن قد عشقوا هذه الديار ونسيم بحرها وعبير خزامها وطيب أهلها وكرمهم. فانصرف هواهم لها، وهم في مختبراتهم وتجاربهم لا ينصرف عن مخيلتهم رسم وجه المليك المشفق على الأجيال القادمة. فاجتهدوا جهدهم وبذلوا وسعهم على إخراج تقنيات حديثة متطورة، ما كان لها أن توجد في جامعات الغرب، فهذه تقنيات لا تتفتق عنها العقول المبدعة إلاّ من كان منها يعيش في ديارنا ويرى الأمل ممزوجاً بالبراءة في وجوه أطفالنا، فتُفجر معاني الإنسانية عند النفس السوية، فتخشى على هذه البراءة أن تضيع إذا ضاع أملها. تقنيات عجيبة متطورة قد بدأ يظهر أُكل نتائج بحوثها وتجاربها في البر والبحر لتوفير المياه الدائمة بأبسط الكلفة والطرق، ولتعويض الآبار وتوفير الطاقة وإيجاد البدائل لها. هدف الجامعة الأول هو العمل على استمرار مقومات الحياة المدنية الحديثة لهذه البلاد المنقطعة عن جميع وسائل الحياة الحديثة في أحضان صحراء قاحلة قاسية لا ترحم. أخبرني أحدهم أنّ الملك الحكيم كان يذرف الدموع لحظة افتتاح الجامعة. فيا ترى ماذا الذي أبكى الملك المشفق في وقت الفرح والسرور؟ هل قد تخيّل له مشهد أبيه وآماله التي ارتسمت على وجهه، حين افتتح أول بئر بترول لأرامكو وسط المعارضة والممانعة وأساطير التغريب ؟ هل استشعر الفؤاد المشفق ما دار في خلد أبيه العظيم وهو يستشرف المستقبل الزاهر للبلاد الذي توقع حدوثه على يد أرامكو التي عارضها بعض قومه، فأزرفت العين الدمع السخين؟ هل رأت بصيرة الملك الصالح المستقبل، وقد أصبحت الجامعة سعودية كأرامكو اليوم، وأصبحت الجامعة وهي كأرامكو اليوم التي لم تكتف بما قدمت من ثروات لهذه البلاد، بل هي اليوم تقود مشاريع النهضة الحديثة، وتُعلم الجيل الشاب فنون القيادة والإدارة. فهل كان بكاء الملك الصالح في لحظات افتتاح الجامعة بكاء الفرح والحبور استشرافاً للخير القادم على يد هذه الجامعة، وكأنه يراها وهي تقود بأيد وطنية سعودية النهضة العلمية والتطويرية للبلاد، بعد أن تكون قد أنجزت مهمتها الأولى وأسست عصب لوازم تأمين أساسيات استمرار الحياة الحديثة المدنية للبلاد؟. أم هل يا ترى كان بكاء الملك الصالح لحظة تجلٍّ لربه يدعوه إشفاقاً على قومه: اللهم أعزّ السعوديين جميعهم وأغنهم وأبناءهم وأحفادهم ولا تؤاخذهم بجهل بعضهم فإنهم لا يعلمون، وتجاوز عنهم كما تجاوزت من قبل عن آبائهم ممن جهل منهم .. آمين، والحمد الله رب العالمين.