النسخة: الورقية - دولي في السينما الأميركية يُعرف عادة نوع الأفلام الذي يغلب عليه الغناء والرقص والموسيقى باسم «الكوميديا الموسيقية». صحيح أنه نوع عمّ سينمات العالم كلها، وسجّل، مثلاً، في السينما المصرية بعض لحظات المجد الأكثر أهمية عبر أفلام فريد الأطرش وليلى مراد وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ، لكنه كانت بالنسبة إلى السينما الأميركية، إبداعاً خاصاً يجتذب دائماً عشرات ملايين المتفرجين مثيراً الحبور والتسرية عن النفس في أوساطهم... وإذا كان هذا النوع ارتبط، إلى حد ما، بالكوميديا والمواقف الطريفة وحكايات الحب ذات النهايات السعيدة، ما يرضى الجمهور العريض لأفلامه، فإن اسم «كوميديا» لم يبد على الدوام ملائماً له... ذلك أن بعض أفلام النوع، وربما كانت هي الأقوى في مساره، لم تكن كوميدية على الإطلاق، بل كانت في بعض الأحيان مغرقة في فجائعيتها. يصدق هذا القول، طبعاً، على أفلام عدة عاشت في ذاكرة السينما كما في ذاكرة متفرجيها، لكنه يصدق في شكل خاص على واحد من أجمل أفلام النوع: «مولد نجمة» للمخرج جورج كيوكر، الذي لم ينه حياته الفنية والطبيعية، إلا بعد أن كان قدّم واحداً من آخر أفلام هذا النوع الاستعراضي وأروعها بالتأكيد، أواسط ستينات القرن العشرين: «سيدتي الجميلة» المقتبس عن مسرحية «بيغماليون» لجورج برنارد شو. طبعاً إذ نقول عن «سيدتي الجميلة» إنه كان واحداً من آخر أفلام النوع، يجب ألا يسهى عن بالنا أفلام حققت بعده، من «كاباريه» إلى «مولان روج» وصولاً إلى «شيكاغو» وغيره... بيد أن ميزة «سيدتي الجميلة» كانت في ارتكازه على نجمة واحدة وعلى الاستعراضات التي يتاح لها تقديمها. > وهذا الكلام ينطبق على «مولد نجمة» بشكل خاص. هذا الفيلم الذي ارتبط باسم جودي غارلاند، بطلته، لا يحسن عنه فكاكاً. وكأنما أتى عنوان الفيلم اسما على مسمى، لا مجرد إشارة إلى مولد النجمة داخل حوادث الفيلم نفسها... ذلك أن جودي غارلاند، حتى وإن كانت لعبت أدواراً عدة في أفلام هوليوود، قبل «مولد نجمة» ومن بعده، فإن هذا الفيلم ظل أشهر أفلامها وأكثرها بقاءً، هي التي نعرف أنها أورثت فنها إلى ابنتها لايزا مينيللي، من المخرج الكبير فنشنتي مينيللي... كما أورثتها آلامها وأحزانها وإدمانها الذي قضى عليها. المهم أن «مولد نجمة» أتى فيلماً كبيراً... وليس فقط في بعده الاستعراضي وفي نجمته... وليس فقط في كونه يتميز بدرامية تجعله على ضفة أخرى من نوع «الكوميديا الموسيقية» المعهود... ولكن أيضاً لأنه في طريقه كان فيلماً عن السينما، وتحديداً عن هوليوود... كان واحداً من الأفلام الأولى التي فضحت، حقاً، أسطورة هوليوود، وأسطورية نجومها، سائراً في هذا على خطى «سانست بوليفار» مماثلاً إياه في قسوته. ومهما يكن، فإن جورج كيوكر، مخرج «مولد نجمة» لم يكن طارئاً في مجال التعبير عن ذلك الموقف من عاصمة السينما، هو الذي كان منذ عام 1932، حقق فيلما بعنوان «أي ثمن لهوليوود؟». وفي الفيلمين معاً، دنا كيوكر من موضوع واحد تقريباً، فحواه أن هؤلاء النجوم - الأساطير، ليسوا في حقيقتهم سوى بشر، لا تكف هوليوود ونجوميتها عن طعنهم وإفساد حياتهم ورميهم من شاهق، بعدما يكونون قد خيل إليهم، أنهم وصلوا إلى ذرى لا هبوط من بعدها. > طبعاً، إن هذا الموضوع، لم يمنع «مولد نجمة» من أن تكون له نهاية تخفف عن سوداوية مصائر شخصياته. ومن المؤكد أن هذه النهاية لم تقحم على الفيلم قصد إرضاء الجمهور العريض الذي كان يحب أن تكون نهاية أفلامه نهاية سعيدة. غير أن هذه النهاية التي تطفح بالأمل، إنما تحل بعد المأساة لتقول إن المأساة هي القاعدة، والأمل هو الاستثناء. وإن هذه النهاية المتفائلة مرشحة للزوال في كل لحظة طالما أن منظومة هوليوود نفسها هي المدمرة - كما يقول الفيلم -، وطالما أن المأساة يمكن أن تحل في أي لحظة. > تحكي لنا حكاية هذا الفيلم التي كتبها المؤلف المسرحي المعروف موس هارت، وكان واحداً من أقطاب المسرح الاجتماعي في برودواي تلك الأيام ووضع اسمه على بعض أكثر الأفلام الهوليوودية جدية، حتى في بعدها الكوميدي (ويعرف له متفرجو المسرح العربي القديم تعريبا لـ «ما حدش واخد منها حاجة» و «أنا أتذكر ماما)، تحكي عن نجم كان سبق له أن عرف مجداً قديماً، لكنه الآن يشارف على أقصى درجات انهياره وتخلي هوليوود عنه... فلا يكون من شأنه إلا أن يغرق في الخمر والسوداوية وقد زالت كل آماله بعودته إلى النجومية... بل إلى العمل أيضاً. هذا النجم يدعى هنا نورمان مين. وذات يوم، في حفل خيري يكتشف مغنية شابة مجهولة تدعى استر بلادجت... وإذ يذهل أمام أدائها وشخصيتها يعرّفها إلى مسؤول في أحد الاستوديوات... ويكتشف هذا بدوره مقدرتها وجمالها، فيتعاقد معها تحت اسم فيكي لستر. وعلى الفور تبدأ هذه رحلة صعودها المدوي في عالم السينما والاستعراض، في الوقت الذي تنجذب إلى نورمان وتتزوج منه، بعد أن كان قد قرر أن يعيد بناء حياته من جديد متخلياً عن الخمر وإدمانه، وعن التأفف إزاء ما تعطيه إياه الحياة. غير أن نورمان، إذ يعجز عن استعادة أنفاسه الفنية، ويراقب بعين الغيرة صعود زوجته أكثر وأكثر، يبدأ بمضايقتها، إلى درجة أنه في الليلة التي حققت فيها فيكي النجاح الأكبر في حياتها، إذ فازت بجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة عن واحد من أفلامها، يصل نورمان إلى القاعة حيث يقام حفل توزيع الجوائز، ويبدأ بإهانة زوجته، إذ استبد به السكر والغيرة والغضب في آن معاً... غير أن رد فعل فيكي يكون على العكس مما يمكن أن يتوقع منها... فهي، إذ تحبه وإذ تحفظ له أنه هو صاحب الفضل الأكبر في حياتها وفنها، تقرر أن تتخلى عن مجدها ونجاحها، مكرسة من أجله وقتها وحياتها. فالحياة بالنسبة إليها أقوى من الفن وأبقى. لكن نورمان حين يفيق أمام هذا الواقع الجديد، ليجد أن ما تفعله فيكي من تضحية بالذات في سبيله، إنما هو إذلال له أكثر وأكثر، إذ يجعله عبئاً عليها... وهكذا يقرر أن يضع حد لهذا كله... بالانتحار... فينتحر ويموت... طبعاً يحزن موته فيكي التي تشعر أن كل ما بذله راح هباء، لكنها بعد أن تمضي فترة حزن مريرة عليه، تقرر أن ليس أمامها إلا أن تستعيد حياتها من جديد، وهكذا تعود إلى خشبة المسرح في استعراض ضخم يصفق لها خلاله ألوف المتفرجين، ولكن هذه المرة تحت اسم السيدة نورمان مين. > كما أشرنا، واضح أن الفيلم في النهاية يستعيد مجرى الحياة والفن، ويستعيد بشكل خاص ذلك النوع السينمائي الذي يتمحور من حول السينما نفسها كموضوع ومناخ... لكن المأساة ستكون حاضرة هنا دائماً... ولعل خير دليل على هذا هو جودي غارلاند نفسها. فهي كان لها في حياتها، المصير نفسه الذي جمع بين فيكي ونورمان في الفيلم: كانت شبيهة فيكي في صعودها المدوي واشتغال هوليوود عليها وعلى نجوميتها، وكانت شبيهة نورمان في مصيرها وإدمانها وانقضاء حياتها في شكل مبكر. > ينتمي «مولد نجمة» من هذه الناحية، إذاً، إلى تلك الأفلام التي اكتشفت، باكراً، مأساة أن ينتمي المرء إلى عالم هوليوود، عالم الأقنعة والابتسامات الكاذبة والنفاق الاجتماعي والضربات التي تهوي في النهاية على رأس من لا يمتثل. أما جورج كيوكر فكان واحداً من أبرز وأكبر خبراء عالم هوليوود الذي عاصره باكراً منذ أوائل عهد السينما، هو المولود في عام 1891، وحتى رحيله. ولقد اشتهر كيوكر بأفلامه المتمحورة غالباً من حول شخصيات نسائية مثل «حكاية مرغريت غوتييه» (عن «غادة الكاميليا») و «سيلفيا سكارليت»، وبخاصة «سيدتي الجميلة» من بطولة أودري هيبورن... آخر فاتناته الكبيرات.