النسخة: الورقية - دولي يتأسس مفهوم «الهوية المغلقة» لدى التيار التقليدي في الفكر العربي، المؤسس لعقل الإسلام السياسي، على مسلمة نراها متعسفة واختزالية، وهي أن نقاء العقيدة الدينية يقتضي أو يفترض نقاء الهوية الحضارية، الأمر الذي يقود إلى اعتبار كل تفاعل ثقافي أو تداخل حضاري بين الحضارة العربية وغيرها من الحضارات إنما يمثل تشويهاً للإسلام، وانتقاصاً من خيرية المسلمين واستلاباً لهم أمام الآخرين، أما هؤلاء الآخرون فليسوا إلا أصحاب الديانات، وليس الحضارات الأخرى. هذه المسلمة تتأسس على مقدمة خاصة بها وتقود في الوقت ذاته إلى نتيجة مميزة لها. أما المقدمة فهي عدم الثقة بالإنسان، أو بالعقل الإنساني وقدرته على صنع تاريخه، ومن ثم ضرورة الارتهان الكامل للنص الديني/ النقل/ الوحي، حيث التوجيه الإلهي الكامل لحركة التاريخ والقصور شبه الكامل للعقل الإنساني. هذه الرؤية تقود إلى اعتبار أن كل حضارة هي فقط الدين الذي تقوم عليه أو يقع في المركز منها. فالحضارة الآسيوية مثلاً هي الهندوسية والبوذية والكونفوشية، أما الحضارة الغربية فهي المسيحية وفقط، ولا معنى جوهري هنا لعصور النهضة والتنوير والصناعة والحداثة، والتي مثلت نوعاً ما من القطيعة التاريخية في مسيرة الغرب الأوروبي مع الروح التقليدية وفي قلبها الدين المسيحي الأرثوذكسي، ومن ثم فلا اكتراث مثلاً بالنقد الرفيع للكتاب المقدس، ولا للمناهج التاريخية في قراءة العهدين القديم والجديد، ولا قيمة لعمل وجهد الفلاسفة الكبار خصوصاً ليبنتز وسبينوزا وكانط، ولا حتى للفلاسفة اللاهوتيين الكبار أمثال كارل بارت وباول تيليش وجاك ماريتان ونيقولا بيرديائيف. فعلى رغم كل ما جرى عبر القرون الخمسة الماضية يبقى الغرب هو المسيحية، وأوروبا هي الصليب. ومن ثم فإنجاز كل حضارة إنسانية يبقى، حتى الآن، نتاجاً للدين، ما يعني أنه إنجاز لصيق بها بنفس درجة التصاق المؤمن بدينه، وهنا تصير الحضارة، كالدين، مسألة تقع في صميم الخصوصية الإنسانية/ الثقافية، وليست إرثاً عاماً للبشرية، أو تراثاً مشتركاً للإنسانية برمتها، أخذاً وعطاءً. وأما النتيجة التي تترتب عليها، فهي ضرورة الانفصال الكامل عن تيار الحضارة الإنسانية حفاظاً على نقاء الهوية (الإسلامية)، وما يفرضه ذلك من تصور سلفي للتاريخ يعتقد في أن عودة الجماعة المسلمة إلى أصالة الماضي كفيل وحده، أو في شكل رئيسي بإقالة الأمة من عثرتها من دون حاجة إلى النقل عن الآخرين أو الاقتباس منهم. فكل معرفة، وكل فضيلة موجودة في نصوص الإسلام لا ينال منها الزمان. الأمر الذي يرتب العديد من الإشكاليات سواء على صعيد رؤية المجتمعات العربية لنفسها أو لغيرها من الحضارات، وأهمها الانشغال العبثي بقضية الهوية بديلاً من الانفتاح على العالم، والنزعة العدوانية إزاء الغير بديلاً من التعاطي الإيجابي معه، والرغبة في التعلم منه. بل يصل الأمر أحياناً إلى تحويل الفهم الخاص للدين (التدين) إلى «إطار ثقافي» مغلق على نفسه داخل الحضارة نفسها وليس فقط إلى «إطار حضاري» في مواجهة الحضارات الأخرى، فلا يمتنع لدى التيار السلفي، مثلاً، مجرد التأثير والتأثر والحوار والتداخل مع الآخر الخارجي/ الغربي حرصاً على نقاء الدين، بل يمتنع كذلك التداخل والتفاعل مع الآخر الفكري والسياسي من بين التيارات الأخرى التي تزخر بها مجتمعاتنا العربية الإسلامية حرصاً على نقاء «المذهب» أو حتى نقاء «التدين» الذي هو مجرد فهم للدين، حيث يكون الليبراليون «غريبي الأطوار»، والعلمانيون «زنادقة» وربما «ملحدين»، أما اليساريون خصوصاً الشيوعيون، فـ «ملاحدة ماديين» على وجه اليقين، ناهيك طبعاً عن الشيعة الذين هم في الأقل «منافقون» وفي الأكثر «خارجون على الملة». وهنا يتحول مفهوم الجهاد من ظاهرة إنسانية وتاريخية تعكس عالمية الإسلام وإنسانيته، إلى ظاهرة أقنومية، تتمتع بالثبات والأبدية، وكذلك إلى ظاهرة دموية، باتت هي الوسيلة الوحيدة للرد على المختلفين مع منطلقاتها سواء في الداخل، حيث ارتبط مفهوم الجهاد بالخلافة الشرعية عبر الإدعاء بالحاكمية السياسية ومتلازماتها السلبية من عنف وإرهاب ضد نظم الحكم القائمة بدعوى أنها جاهلية، وضد كل القيم المؤسسة للحرية بدعوى إنها بدعة، أو في الخارج حيث ارتبط مفهوم الجهاد بمفهوم الهوية المغلقة، القائل إن الانفتاح على الآخر يمثل، ليس فقط انسحاقاً حضارياً بل دينياً كذلك، إذ يحتل العالم المسيحي من العالم الإسلامي ذلك الموقف الذي يحتله الشيطان من الإنسان في عقيدة الخلق التوحيدية، وهو الموقف الذي يُختزل في آليتي الإغواء والإفساد الدائمين، ولا سبيل إلى تجاوز هذا الموقف العدائي إلا بالانغلاق على الذات، والعودة إلى الماضي القدسي، الذي يستحيل هنا إلى قبلة سرمدية تتبعثر معها أبعاد الزمن وتضطرب ديناميكية الحركة التاريخية. وهكذا تمثل ظاهرة الجهاد باعتبارها ذلك السلوك الاحتجاجي العنيف، الملتحف بالقداسة، والملتبس بالإسلام، آلية رد (أسطورية) على أزمة الأمة الحضارية، لا تقود في الحقيقة إلا لتأميم المساحة المتاحة لفعالية العقل الإنساني، وإلى تأميم حياة المسلم المعاصر، وسد الطريق على حركة الإسلام في العصر. إننا هنا أمام مفهوم عملاق (ذكوري). وكذلك أمام خطاب (قتالي) ذي بنية أسطورية معقدة، ومن ثم يحتاج إلى تفكيك كامل سواء من داخله حيث تجري مساءلته بروح النص القرآني الشامخ الذي يعكس رؤية إنسانية متفتحة للوجود الإنساني، أو من خارجه حيث نسائله بمعايير التاريخ الإنساني ومقتضيات النزعة التاريخية، نفياً لتصوراته الاختزالية، ونقداً لمقولاته الإطلاقية، ورداً على ادعاءاته بالخلود والأبدية (الأقنومية)، وصولاً إلى الإعلان الصريح، وعلى مسؤوليتنا، بـ «نسخ الجهاد العسكري» خارج إطار الحرب الدفاعية، سواء بفعل مشاعية الأفكار في الفضاءات الإنسانية الجديدة والمفتوحة على نحو يقوِّض أركان الكهانة الدينية، أو بفعل ذبول حق الفتح العسكري أمام حقوق السيادة القومية، وكلاهما معطيات أتاحتها لنا عصور الحداثة وحركة التقدم الإنساني. * كاتب مصري