إبراهيم بيرم المشهد السياسي اللبناني، مع رئيس محسوب على طرف سياسي معين في بيروت هو، بالطبع، غيره مع رئيس «وفاقي» أو «توافقي»، وهو مصطلح أدرج في قاموس السياسة اللبنانية، ومعناه رئيس لا ينتمي إلى أي من أطراف الصراع الثلاثة في لبنان، أي «8 آذار» و«14 آذار» وقوى الوسط، الذين استحالوا قوة وإطارا يحسب حسابه، وله موقعه الوازن. رئيس منتم (كي لا نقول: رئيس «حزبي») لا يفضي بشكل أو بآخر إلا إلى احتدام التجاذبات والصراعات في الداخل اللبناني؛ فثمة تجربة لرئيس حزبي لم يمر عليها أكثر من حين، هي تجربة الرئيس أمين الجميل (1982 - 1988)، بدأت معقولة ومقبولة إلى حد ما، بعدما اختلت موازين القوى في لبنان، إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت صيف عام 1982. ولكنها تحولت لاحقا إلى تجربة مأساوية انتهت بفراغ رئاسي وبحكومتين وباقتصاد منهار وبفلتان أمني يضرب أطنابه في كل الأراضي اللبنانية، وكذلك بدولة ضعيفة وبسلطات رسمية مصادرة من هذا الطرف أو ذاك. بل، وأبعد من ذلك، انتهت بخروج الرئيس الجميل نفسه من لبنان في رحلة إبعاد قسرية، بعدما احتلت «القوات اللبنانية» المواقع والمكاتب المحسوبة على جماعته (حزب الكتائب في المتن الشمالي). بالطبع، ثمة من يرى أن الوضع الآن مختلف، والمعطيات راهنا مغايرة، والظروف غير الظروف. إذ إن عهد الرئيس الجميل، بما له وبما عليه، قد ولى. وهو بشكل أو بآخر جزء لا يتجزأ من سني الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1989)، حمل مآسيها وتحمل تداعياتها وآثارها. ولكن مع وجاهة ما تنطوي عليه هذه «القراءة - الفرضية»، فإن معادلات لبنان وتوازناته الهشة ما زالت نفسها، ودخل إليها بطبيعة الحال عامل إضافي لا يمكن نكرانه، يتجسد بوجود قوة بوزن حزب الله واللفيف السياسي الذي يدور في فلكه، أو ينزل في المحور السياسي عينه. لذا، ففي توازن القوى الحالي بين فريقي «8 آذار» و«14 آذار» يصير صعود المرشح المنتمي إلى إحداهما إلى قصر بعبدا (مقر الرئاسة في ضواحي بيروت)، كسرا للطرف الآخر، وبالتالي، فتحا للباب على مصراعيه نحو مزيد من الاحتدام والصراع، الذي قد ينحدر بالبلاد نحو احتمالات بالغة السوء. ولم يعد خافيا أن السنوات التي أعقبت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كانت (بشكل أو بآخر) عبارة عن محطات تحدٍّ وتصارع بين كلا الفريقين، استخدم كل طرف فيها الشارع مرارا وتكرارا، وصولا إلى أسلحة سياسية وإعلامية كانت في الحالات السابقة «محرمة»، لدرجة أن شريحة واسعة من اللبنانيين وضعت في لحظات احتدام معينة أيديها على قلوبها خشية انفجار ما يشابه الاحتراب الأهلي، أو هو الحرب الأهلية بذاتها.. وعلامتها الفارقة في أوائل مايو (أيار) عام 2008. إنها إذن نحو عشر سنوات من عرض العضلات وقياس القوى وسياسة حافة الهاوية، مارسها الطرفان الأبرز بكل أشكالها وألوانها، وتخللتها رهانات على متغيرات وتحولات داخلية وإقليمية ودولية، بأمل أن ترجح كفة خيارات هذا الطرف أو ذاك، أو على الأقل تعزز حضوره في وجه خصمه. ولم يعد مفاجئا أن فريق «14 آذار» (أي تجمع القوى المناوئة لنظامي طهران ودمشق) تصرف خلال المرحلة التي تلت الانتخابات النيابية عام 2005، على أساس أن زمام الأمور صار بيده وأن الغلبة كرست له، ولا سيما، بعدما حصل على أغلبية 71 مقعدا نيابيا في هاتيك الانتخابات، وبعدما جلت الوصاية السورية عن البلاد مذلولة مذمومة ومحملة بآثام كل المرحلة السابقة. لكن الأمور لم تسلس طويلا لهذا الفريق، فالخصم (أي «8 آذار» المكوّن من الثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل» والتنظيمات المؤيدة لنظام دمشق) نجح في نسج تفاهم مع «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون، وكون جبهة مشتركة مكّنته من خوض مواجهات شرسة في وجه الخصم. ومع فريق «14 آذار» عاد فسجل انتصارا آخر في انتخابات عام 2009. مكّنه من استعادة المعنويات التي خسرها ميدانيا في أحداث مايو (أيار) عام 2009. فإن رياح الأمور سارت لاحقا خلاف ما يشتهيه، إذ أسقطت حكومة الرئيس سعد الحريري بعد أقل من سنة على تأليفها، ونجح الفريق الآخر في استيلاد حكومة هي بالكامل له برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، وبالتالي، اضطر إلى الذهاب نحو خنادق المعارضة لاستعادة ما يعتقد أنه فقده، إلى أن كانت الحكومة الحالية برئاسة تمام سلام، التي كرست ضمنيا نوعا من توازن القوى و«شراكة إجبارية» تعبر عن هذا التوازن. وهكذا دلت تجارب السنوات العشر الماضية بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، على أن أي محاولة لكسر التوازن وتكريس معادلات وإلغاء أخرى، ستقود بشكل أو بآخر نحو وضع البلاد على صفيح ساخن، وأمام الاحتمالات السوداء. وعليه، فإن أي تفكير جدي برئيس من لدن تيار أو فريق، أو بمعنى آخر برئيس غير توافقي أو وفاقي، هو بمثابة وصفة تهديم ما تبقى من أركان الدولة ومؤسساتها، وتشريع البلاد أمام عصف المجهول. فحذار تكرار تجربة أمين الجميل في القرن الحادي والعشرين. * كاتب صحافي ومحلل سياسي مقرب من قوى «8 آذار»