النسخة: الورقية - دولي فوجئ الاميركيون، الأسبوع الماضي، بإطلالة السيدة الأولى ميشيل اوباما على شاشات التلفزيون وهي تناشد جماعة «بوكو حرام» ضرورة إطلاق سراح مئتي تلميذة نيجيرية. وقالت ميشيل في رسالتها إنها تتحدث أيضاً باسم زوجها الرئيس الاميركي، الذي أغضبه تصرف الجماعة الارهابية التي قررت منع المرأة النيجيرية من تحصيل العلم. وفي رده على دعوة ميشيل اوباما، أعلن زعيم جماعة «بوكو حرام» أبو بكر شيكاو أنه عازم على بيع الفتيات في السوق لأنهن خالفن توصياته وسياسته. وفي التفاصيل، فإن مسلحين اقتحموا مدرسة ثانوية في قرية «تشيبوك» قرب حدود الكاميرون يوم 14 نيسان (ابريل) الماضي، وخطفوا التلميذات اللواتي كن يؤدين الامتحان. ونجحت أكثر من خمسين فتاة في الهرب عبر الغابة، بينما ظلت 200 فتاة في أيدي المتمردين. ردود الفعل حول هذه العملية كانت مختلفة، ولكن الغالبية هاجمت الرئيس غودلاك جونثان، كونه تلكأ في إصدار أوامره لتعقب الخاطفين. وفي محاولة متأخرة، أمر الرئيس القوات الجوية بمراقبة سبع شاحنات نقلت الفتيات الى جهة مجهولة. كما كلفت وزارة الدفاع فرقتين من الجيش بالمشاركة في البحث عن المخطوفات داخل المناطق الحدودية المتاخمة للتشاد والكاميرون والنيجر. وبعد محاولات فاشلة، بثت وكالة الصحافة الفرنسية شريطاً يظهر فيه عدد من الفتيات وهن يجلسن وراء متمرد يحمل رشاشاً، ويقرأ من منشور الشروط الملزمة لمبادلة المخطوفات ببعض محتجزي «بوكو حرام» في سجون الدولة. ومعنى هذا أن قرار بيع الفتيات، كما أعلن زعيم هذه الجماعة أبو بكر شيكاو، قد استُبدِلَ بقرار المقايضة بغرض إحراج الدولة النيجيرية وإشراك منظمة العفو الدولية في إيجاد الحل. كذلك أظهرت تلك الصورة أن أبو بكر حرص على توزيع المخطوفات الى أربع مجموعات بحيث يبقي بازار المقايضة مفتوحاً في حال قامت الدولة بهجوم مفاجئ. حملات الاستنكار والانتقاد شملت كل دول العالم، بمَنْ في ذلك رجال الدين والسياسة والأدب والفن. وفي العاشر من هذا الشهر، نشرت الصحف الواسعة الانتشار والتأثير مئة صفحة في مئة دولة، تحت العنوان الذي أطلقته ميشيل اوباما: «أعيدوا لنا فتياتنا المخطوفات.» وقد وقّعت الرسالة، التي أشرفت عليها الأمم المتحدة، أكثر من ثمانين شخصية سياسية وتجارية وأدبية وصناعية. أما بالنسبة الى ردود فعل العالم الاسلامي، فإن الغالبية الساحقة دانت عملية الخطف الجماعي، واصفة «بوكو حرام» بأنها أسوأ من «طالبان»، وأكثر ظلامية وتخلفاً منها. مؤسسة الأزهر الشريف انتقدت بشدة عملية الخطف، وقالت «إن الدين الاسلامي يحضّ على إعلاء قيم التسامح والتفهم، لا على الخطف والعنف وسفك الدماء.» ووصف مفتي عام السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ هذه الجماعة بأنها ضالة ومن الخوارج. واستنكر أعمال الخطف، لأن الإسلام يحرّمها، كما يحرّم القتل والعدوان. وندد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بخطف 276 تلميذة نيجيرية من مدرستهن في ولاية «بورنو»، معتبراً ذلك عملاً إجرامياً محرَّماً دينياً وأخلاقياً. ودعا الاتحاد، في بيان وقعه رئيسه يوسف القرضاوي الى إطلاق سراح المخطوفات فوراً، والى محاسبة مرتكبي الخطف أشد الحساب. وتطالب «بوكو حرام»، التي يعني إسمها بلغة الهاوسا: «التعليم الغربي حرام»... أو «الكتاب الغربي حرام»، بمنع تعليم البنات. كذلك تُعتَبَر عملية الخطف الجماعية هذه سابقة من نوعها منذ إنشاء هذه الحركة التي حصدت هجماتها أكثر من 1500 قتيل خلال هذه السنة فقط. وفي مطلع عام 2009 هاجم عناصرها مكاتب شرطة مدينة «بوتشي» وقضوا على 55 منهم. وفي عام 2011 أعلنت مسؤوليتها عن نسف مكاتب الأمم المتحدة في أبوجا، الأمر الذي أدى الى مقتل عشرين موظفاً. وُلِدَت هذه الحركة على يد مؤسسها محمد يوسف في الجزء الشمالي من نيجيريا. وكان يتجول في المناطق المحرومة، داعياً الى تدمير مؤسسات الدولة التي صرفت أموالها وحصرت اهتمامها بإنعاش المناطق الجنوبية الغنية بالنفط. وقد وجد لدى العاطلين من العمل والجهلة والفقراء كل التجاوب المطلوب لتأسيس حركة متزمتة لا تختلف كثيراً في توجهاتها عن توجهات «طالبان» الأفغانية. وكان من الطبيعي أن تصطدم هذه الحركة المتحدية بوسائل القمع والعنف وكل ما يشهره الجيش في وجهها. وبعد إنذارات متواصلة، اعتقلت الدولة النيجيرية محمد يوسف، وقدمته للمحاكمة. وفي عام 2009 حكمت بإعدامه، ثم قامت بتصفية 800 مقاتل من أتباعه. وعلى الفور، تولى أبو بكر شيكاو من بعده زمام القيادة. ولم ينتظر طويلاً كي يعلن حرب الانتقام على الدولة، ويعيد تنظيم صفوف جماعته بواسطة ضباط تابعين لحركة «الشباب» في الصومال، ولتنظيم «القاعدة» في أفغانستان. وبخلاف سلفه، فقد وضع شيكاو استراتيجية اقتحامية، تهدف الى ترويع العاصمة أبوجا. لذلك أمر بزرع المفخخات في كل حي راقٍ، وكل مؤسسة رسمية. ويؤكد المراقبون انه استغل فرصة اجتماعات منتدى الاقتصاد العالمي، الذي عُقِدَ في العاصمة، كي يثبت أن ما وصفه الرئيس جونثان في خطابه من استقرار وأمن في نيجيريا لم يكن أكثر من حملة تسويق لا تستند الى الواقع. ومن أجل تأكيد مزاعمه للمشاركين في المنتدى، قامت جماعته بخطف 276 تلميذة من بلدة تشيبوك، شرق ولاية بورنو. لهذا غضب الرئيس غودلاك جونثان، وأعرب عن استيائه مهدداً بقطع دابر الارهاب في نيجيريا. وعلق شيكاو على تهديد الرئيس بالقول إن احتلال أبوجا سيكون هدفه الأول والأخير. وكما وفرت مغاور «تورا بورا» الحماية لجماعة «القاعدة»، ولتحركات أسامة بن لادن الذي ضلل متعقبيه الاميركيين عام 2002... هكذا توفر غابات «تشيبوك» الحماية الطبيعية لجماعة «بوكو حرام». كتب المعلق نيكولاس كريستوف مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» يحلل فيها الدوافع العقائدية المتزمتة التي تجمع «بوكو حرام» بـ «طالبان» أفغانستان وباكستان، فقال: إن مهاجمة مدرسة للبنات لا تختلف كثيراً عن مهاجمة «طالبان باكستان» للصبية ملالا يوسفزاي التي اشتهرت بأحاديثها عن حرية المرأة. ويخلص المعلق الى استنتاج مفاده: إن سبب الاعتداء على ملالا لا يختلف في جوهره عن سبب تشويه «طالبان أفغانستان» لوجه فتاة جامعية بواسطة الأسيد. في رده على الحملة العالمية التي تقودها ميشيل اوباما، تراجع أبو بكر عن تعهده السابق، وأعلن عبر آخر فيديو أن التلميذات المخطوفات اعتنقن الاسلام، ولن يفرج عنهن إلا مقابل إطلاق سراح معتقلين من عناصر «بوكو حرام». وكان من الطبيعي أن يحرج هذا الحل المشروط رئيس الجمهورية جونثان الذي طلب من مجلس الشيوخ تمديد حالة الطوارئ المفروضة في ثلاث ولايات شمال شرقي البلاد لستة أشهر إضافية بسبب أعمال العنف. وهو يتوقع أن تكون هذه المدة كافية لإحراز انتصار يحققه الجيش النظامي قبل انتخابات الرئاسة المقررة السنة المقبلة. والمعروف أن جونثان المسيحي خلف رئيساً مسلماً قضى فجأة بعارض صحي قبل أن يكمل ولايته. ويرى الديبلوماسيون في أبوجا أن من مصلحة جونثان أن يبقى شمال البلاد ساحة للنزاعات المسلحة، وخاضعاً لحالة الطوارئ، الأمر الذي يساعد الرئيس على الفوز بواسطة المناطق الجنوبية الهادئة. لذلك حذر عدد من المرشحين المسلمين في مناطق القتال من أخطار استمرار القتال أثناء الانتخابات. وطالبوا بالشفافية والنزاهة والحرص على نشر الجيش لضبط الأمن ومنع التزوير. في حين دعا أبو بكر شيكاو الى مقاطعة انتخابات الرئاسة لأنه عازم على فصل الشمال عن الجنوب، وإقامة ولاية إسلامية مستقلة لا تخضع خلافتها لأي رئيس مسيحي. علماً أن أعداد المسلمين والمسيحيين تتساوى في نيجيريا تقريباً (170 مليون نسمة). الاهتمام الغربي بمصير التلميذات المخطوفات أثار حفيظة الصين التي تعتبر نفسها الحاضنة الكبرى للقارة الافريقية... والداعمة الأولى لمشروع ربط العواصم الافريقية بخطوط القطارات السريعة بهدف تعزيز التواصل والتنمية. وتساءلت بكين، بلسان رئيس وزرائها لي كي تشانغ، عن يقظة واشنطن المفاجئة بعد مرور خمس سنوات على تجاهل نشاط «بوكو حرام». وقد أعربت عن قلقها من إرسال فريق اميركي - عسكري وديبلوماسي واستخباراتي - لمساعدة الحكومة النيجيرية، إضافة الى أربعة وكلاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي. وبعد الولايات المتحدة، أرسلت بريطانيا وفرنسا خبراء الى نيجيريا لمساعدة قوات الأمن في البحث عن التلميذات، بينما اقترحت اسرائيل إرسال خبراء في مناطق الغابات الكثيفة. كل هذا، وطائرات الاستطلاع الاميركية لم تتوقف عن مراقبة الأدغال الشاسعة وتصوير كل شبر فيها. وترى الصين أن الدول الغربية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، تسعى الى استغلال حادثة خطف التلميذات كي تتسلل عبرها الى القارة التي طُرِدَت منها عام 1993 بعد مقتل 18 من مشاة البحرية في الصومال، خصوصاً ان القارة السوداء تملك تحت أرضها أضخم مناجم الفحم والغاز والنفط واليورانيوم والمعادن الثمينة وكل ما يجعل الصين دولة قوية وغنية! * كاتب وصحافي لبناني