لم يكن التاريخ يومًا إلا شعرًا هكذا أراه في ذاكرتنا الشعرية، تصالح معه المنتصرون حين تخاصم معه المناوئون تماما كما تواتره المظلومون.. وتجادل فيه المنظّرون.. وتباين حوله الرواة وفي كلٍّ قرأناه شجنًا لاخبرًا أو روايةً في أكثر حالاتنا.. ولهذا ربما كانت موقعة عمورية مثلا بسبب أبي تمام وقصيدته الشهيرة أكثر حضورا فينا من معركة القادسية التي انتهت بها مملكة فارس أكبر ممالك التاريخ حينها، بل إن حرب داحس والغبراء التي تعدّ في مفهوم السياسة المعاصرة صفاقة عصرٍ وحماقة أمة، قد لايغفر لها ولا يجعلنا نتذاكرها بين حين وآخر إلا لأنها قدّمت لنا عنترةً فارسًا وزهيرًا حكيما، وهكذا جاءت دائما العلاقة بين الشعر والتاريخ في ذاكرتنا القديمة، إلا أن المتابع للمشهد العربي الآني على مستوى السياسة و(التتريخ) يلمس غيابًا مخيفًا للشعر عن مواكبة أحداثه التي غيّرت الأحلام وجدّدت الواقع وأفضت إلى فوضى غامضة في كثير من البلدان مقارنة بفنونٍ أخرى كالرواية أو القصة على الأقل على مستوى علاقة هذين الفنين بالسينما والتلفزيون في أقلّ الأحوال، والشعراء أنفسهم يدركون أن ما حولهم من أحداث يظلّ الشعر أولى بها وهو الذي اعتاد دائما أن يكون الرائد في تقديم الحلول الوجدانية في رحلة البحث عن حقيقة الوجود للإنسان لاسيما في ظروف مواتية له، فالشعوب العربية التي ثارت كان محركها الأول وجدانها ولهذا كان الشعر أولى بها، وهي أمر لم يعتدْ عليها الشعر في ذاكرتنا العربية طوال علاقته بالحياة حوله، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن نحيل هذا الانزواء للشعر عن الحياة السياسية المعاصرة وتتريخها إلى حالة عزوفٍ عامة عنه، ذلك أن تجربة الشاعر المصري (عمرو قطامش) على سبيل المثال في البرنامج الجماهيري (Arabs Got Talent) وفوزه بدورة البرنامج في عام 2011م توحي بعكس ذلك فالمواهب تعددت والفنون تزاحمت وتنافست وحضر الشعر أخيرا ليكون ذاكرة الماضي والحاضر معا، لكن الشعر لم يكن حينها هو الرهان الوحيد لدى قطامش بل كانت علاقة قصيدته بتاريخ الثورة المصرية وأحلام ميدان التحرير آنذاك هي من منحته الحضور الجماهيري الكبير والفوز أخيرًا ببرنامج شعبيٍ ومتنوّع.. لهذا يظل الحضور الخَجِل للقصيدة الذاكرة في عصرنا الحالي برغم توافر كل مقوّمات حضورها المؤثر أمرًا مستغربًا لاسيما وانكسارات الطموحات وخيبات الأحلام واضحة وجليّة في كثيرٍ من البلدان الثائرة، والشاعر المعاصر اتكأ دائما على انكساراته واندفع مطلقا للتشهير بأوجاعه وخيباته، فضلا عن أن كثيرا من هذه الثورات حملت لنا وجعًا إنسانيا لايغفل عنه شاعر ولا يزايد عليه الإنسان فيه، فهل سيحضر الشعر ولو بعد حينٍ على اعتبار أنه كان ومازال أثرًا أخلد من حياة وأبقى من مصير.. أم أن هذه الثورات وتتابع الأحداث فيها بل وفوضويتها أحيانًا جعلتنا أخيرًا بذاكرةٍ شعرية مثقوبة.. ربما!