×
محافظة المنطقة الشرقية

وفاة مواطن مصاب بكورونا في #الطائف ..والصحة تسجل حالتين جديدتين

صورة الخبر

رواية: بول أوستر ترجمة: أحمد العلي الحلقة الخامسة من المستحيل، أدركت، الدخول لعزلة الآخر. إذا كان صحيحا أنه يمكننا دائما معرفة إنسان آخر، حتى ولو لدرجة بسيطة، ستكون فقط إلى الحد الذي ينوي أن يجعل نفسه معروفا عنده. سيقول رجل: أشعر بالبرد. وآخر قد لا يقول شيئا، لكننا سنراه يرتجف. بأية طريقة، سنعرف أنه يشعر بالبرد. ولكن ماذا عن الرجل الذي لا يقول شيئا ولا يرتجف؟ حيث كل شيء مستعص، حيث كل شيء محكم وغامض،لا يستطيع المرء فعل شيء سوى المراقبة. لكن أن يدرك المرء ما يراه هو أمر آخر تماما. لا أريد أن أفترض شيئا. لم يتكلم أبدا عن نفسه، لم تتراء لنا أبدا معرفته بأن هناك أمورا يستطيع الحديث عنها. كان الوضع وكأن حياته الداخلية استعصت حتى عليه. لم يستطع الحديث عنها، لذا، تخطاها بصمت. إذ لم يكن من شيء هناك، حينها، إلا الصمت، أليست وقاحة مني أن أبوح؟ وأيضا: لو كان هناك أي شيء أكثر من الصمت، هل كنت أحسست بالحاجة للبوح في المقام الأول؟ خياراتي محدودة. أستطيع البقاء ساكتا، أو أستطيع الحديث عن أشياء لا يمكن الوثوق بها. وعلى أقل تقدير، أريد أن أضع الوقائع، أعرضها بأكبر صراحة ممكنة، وأجعلها تقول ما لديها. ولكن حتى الوقائع قد لا تقول الحقيقة دائما. كان صلبا محايدا على السطح، يمكن التنبؤ بسلوكه بشكل قاطع، لدرجة أن كل شيء فعله شكل لنا مفاجأة. لا يستطيع المرء تصديق أن هناك رجلا مثله، مفتقرا للمشاعر، يريد القليل القليل من الآخرين. وإذا كان لا وجود لرجل كهذا، يعني أنه يوجد رجل آخر، رجل مختبئ داخل الرجل الذي لم يكن هناك، والحيلة هنا إذا هي أن تعثر عليه، بشرط أن يكون هو هناك كي يمكن العثور عليه. من أجل الاعتراف، منذ البداية تماما، أن أساس هذا المشروع هو الفشل. ذكرى مبكرة: غيابه. كان في السنوات الأولى من حياتي يذهب للعمل في الصباح الباكر قبل استيقاظي، ولا يعود للمنزل إلا بعد وقت طويل من وضعي على السرير. كنت ابن أمي، وعشت في مدارها. كنت قمرا صغيرا يدور حول أرضها الضخمة، ذرة في مجالها المغناطيسي، وتحكمت بالمد والجزر، الطقس، قوى المشاعر. كان تحذيره لها هو: لا تهتمي به كثيرا، ستفسدينه. لكن صحتي لم تكن على ما يرام، واستخدمت هذه العلة لتبرر اهتمامها المسرف بي. أمضينا وقتا طويلا مع بعضنا، هي في وحدتها وأنا في تشنجاتي، منتظرا بصبر في مكاتب الأطباء لأحد ما كي يسكن الاضطراب الذي يثور باستمرار في معدتي. حتى حينها، كنت ألتصق بهؤلاء الأطباء بطريقة يائسة، أردتهم أن يحضنوني. مبكرا من البداية، يبدو لي، كنت أبحث عن أبي، أبحث بشكل محموم عن أي أحد يمثله. ذكريات متأخرة: التوق. عقلي مستعد دائما لأن يرفض الوقائع لأصغر عذر، لقد مضيت بعناد آمل شيئا لم يعط أبدا لي- أو أعطيته بندرة وبشكل مجرد، لكأنه حدث خارج نطاق التجربة الطبيعية، في مكان لا يمكنني أبدا الحياة فيه لأكثر من لحظات قليلة كل مرة. لم يكن ما أشعر به هو أنه يكرهني. كان يبدو أنه مشوش فقط، ليس بمقدوره النظر في اتجاهي. وأكثر من أي شيء آخر، أردته أن يلاحظني. أي شيء، حتى أقل القليل، كان كافيا. كيف، على سبيل المثال، عندما ذهبت الأسرة مرة لمطعم مزدحم في يوم أحد، وكان علينا أن ننتظر طاولتنا، أخذني أبي للخارج، قدم كرة تنس (من أين؟)، وضع قرشا على الرصيف، وشرع في بدء لعبة معي: عليك أن تصيب القرش بكرة التنس. لم أبلغ أكثر من ثماني أو تسع سنوات من العمر وقتها. باستعادة ما حدث، لا شيء يمكن أن يكون أكثر تفاهة من ذلك. لكن حتى الآن، واقع أنني كنت مشمولا، أن أبي طلب مني عرضا ان أشاركه ضجره، تقريبا سحقني من الفرح. في أحوال عديدة، كانت هناك الكثير من خيبات الأمل. يبدو للحظة أنه تغير، قد انفتح قليلا، بعدها، فجأة، لا يعود هناك. المرة الوحيدة التي نجحت فيها في إقناعه بأخذي لمباراة كرة قدم (العمالقة يبارون كرادلة شيكاغو، في ملعب اليانكي، أو في البولو-قراوندز، لا أتذكر أيهما)، وقف بشكل مفاجئ من مقعده في منتصف الربع الرابع من المباراة وقال، «وقت المغادرة الآن». أراد أن يغلب الحشود واجتناب أن يعلق في الازدحام. لا شيء مما قلته كان بمقدوره إقناعه بالبقاء، ولذا غادرنا، هكذا، والمباراة مستمرة بكامل طاقتها. كان يأسي خارقا وأنا أتبعه هابطين السلالم الحجرية، حينها، بشكل أسوأ، في ساحة المواقف، مع دوي المدرجات غير المرئية هادرة خلفي. لا تستطيع الوثوق به لمعرفة ما تريد، لتتوقع ما كنت ستشعر به. واقع أنك ملزم بأن تسأله ذلك بنفسك، أفسد السرور مقدما، أعاق انسجاما كنت تحلم به قبل عزف حرف واحد. عندها، حتى وإن سألته شيئا، لن يكون مؤكدا على الإطلاق أنه سيفهم ما رميت إليه. أتذكر يوما شبيها جدا بيومنا هذا. يوم أحد بأمطار خفيفة، النعاس والهدوء يعم المنزل: العالم يمشي بنصف سرعته. كان أبي في قيلولة، أو أنه كان للتو مستيقظا منها، وبطريقة ما كنت في الفراش معه، كلانا ووحدنا في الغرفة. احك لي قصة. ربما أن الأمر بدأ هكذا. ولأنه لم يكن يفعل شيئا، لأنه كان لايزال ناعسا في خمول ما بعد الظهيرة، قام بالضبط بما طلبته منه، شرع في حكاية قصة بثبات وثقة. أتذكرها كلها بوضوح. لكأنني للتو خرجت من الغرفة بنورها الرمادي وأغطيتها المتشابكة على الفراش، لكأنني، ببساطة، عبر إغلاق عيني، أستطيع المضي عائدا إليها في أي وقت. روى لي عن أيام التنقيب عن المعادن التي قضاها في أمريكا الجنوبية. كانت قصة مغامرات طويلة، مشحونة بأخطار قاتلة، مهارب وفرارات يطير لها الشعر، تقلبات الحظ غير المتوقعة، شاقا طريقه عبر الغابة بمنجل، مقاتلا قطاع الطرق بيدين عاريتين، مطلقا النار على حماره عندما انكسرت ساقه. كانت لغته مزهرة وملتفة، ربما صدى للكتب التي قرأها بنفسه صبيا. لكن هذا الأسلوب الأدبي تحديدا هو ما سحرني. لا لأنه فقط كان يخبرني بأشياء جديدة عنه، مزيحا لي الستار عن عالم ماضيه البعيد، ولكنه كان يقولها بكلمات جديدة وغريبة. هذه اللغة كانت مهمة، أهمية القصة نفسها. انتمت لها، وبشكل ما، لا يمكن التفريق بينهما. غرابتها كانت دليل أصالتها. لم يرد إلى ذهني الظن بأن ما حكاه لي كان قصة مختلقة. أمضيت بعدها أعواما مؤمنا بها. حتى عندما تخطيت المرحلة التي من المفترض مني بعدها أن أفهم بشكل أفضل، كنت لا أزال أشعر بأن فيها ما هو حقيقي. أعطتني شيئا أتشبث به عن والدي، وكنت مترددا في إطلاق سراحها. وأخيرا، لدي تفسير لتشبثي الغامض بها، عدم اكتراثه بي. كان شخصية خيالية، رجل بماض مظلم ومثير، أما حياته الحالية فهي محطة وقوف فقط، كطريقة لانتظار الوقت المناسب كي يقلع للمغامرة القادمة. كان يعد خططه، يحاول إيجاد طريقة لاستعادة الذهب المدفون عميقا في قلب جبال الأنديز.