الواضح في كل هذه الحروب التي تشهدها المنطقة العربية أن وقودها يحتطب من الطبقات المهمشة اقتصادياً وتعليمياً وثقافياً. قد يبدو لأول وهلة أن الدعاة المرفهين المختبئين خلف التحريض العقائدي والمذهبي ينتمون في واقعهم المعيشي إلى الطبقات الثرية المرفهة والمرتاحة جداً. لكن عند التدقيق والتمحيص يتضح أن هؤلاء الدعاة وصلوا إلى الثروة عبر الشهرة الإعلامية، وذلك بمخاطبة الطبقات المهمشة معيشياً وتعليمياً وثقافياً في المقام الأول، أي أنهم ركبوا على ظهور الفقراء والمهمشين ليصلوا إلى الرفاه المعيشي. إنه لا ينسجم منطقياً في الأساس أن يتحدث المحرض عن فضيلة الجهاد الفوضوي، بينما هو شخصياً لا يشارك فيه ويحرص على إبعاد أبنائه وأفراد أسرته عن ميادين الجهاد. لا يستقيم منطقياً أيضاً أن يتحدث داعية محرض عن الفساد وغياب العدالة الاجتماعية والتغريب، وهو يسكن في القصر ويركب المرسيدس ويتضمخ بأفخر أنواع العطور ويقضي إجازاته المتكررة في أغلى المنتجعات. كذلك لا يستقيم منطقياً أن يستمتع الداعية المرفه بأحدث المنجزات الاستهلاكية الغربية ويرسل أبناءه وبناته للدراسة في الجامعات الغربية، بينما هو يحذر محلياً من التغريب ويستعدي السلطات على المدافعين عن حريات الرأي والانفتاح الحضاري والعلمي والثقافي على العالم. إذاً أين يقع الإشكال؟ الإشكال يقع في دهاء الداعية المحرض، وهو ما يجعله يبدو متناقضاً مع نفسه، بينما هو في الواقع ليس كذلك. عندما يكون العقل مسكوناً بالهاجس الملح في أن مخرجاته الفكرية لا تساهم بشيء مفيد يستطيع به الناس تحسين ظروفهم المعيشية والصحية والإنتاجية، وأن النهاية محسومة بانتهاء الصلاحية أمام واقع التحديات الحقيقية للحياة، عندئذ يلجأ الداهية الطبقي إلى مخاطبة العقول الهشة الفارغة لتعبئتها بما يريد ويعود بالنفع عليه. في حالة اقتصار الداعية أو المحتسب على تبصير الناس وتنويرهم بما يحتاجون إليه بالضرورة للبقاء على الطريق السليم، عندئذ لن يحصل على النجومية ولا على المكاسب الإعلامية والجماهيرية المترتبة عليها، وسوف يبقى طبقياً مع الجماهير وداخل الجماهير، يأكل نفس الخبز ويسكن نفس الحي ويرتدي نفس الملابس، بينما هو يريد أن يتميز طبقياً ويستطلع آفاق الشهرة والمجد والثروة من فوق أكتافهم. لذلك ولهذا السبب فقط، أي بسبب الانفصام عند المحرض بين التطلعات الطبقية والبضاعة الفكرية، لا يبقى سوى مخاطبة وتحريض الطبقات المهمشة. عندما نستعرض نوعيات الإرهابيين من السعودية واليمن وليبيا وتونس والعراق ومصر، الذين انفلتوا عن مجتمعاتهم وتحولوا إلى صفوف القاعدة وداعش والنصرة وأنصار الشريعة إلى آخره، على ماذا نعثر؟ المؤكد أننا لن نعثر على أبناء الدعاة ولا أبناء الذوات ولا أبناء المسؤولين النافذين ولا أبناء العلماء الشرعيين الكبار، وإن عثرنا على البعض منهم فلن تتعدى أعدادهم الأفراد، ولأسباب سيكولوجية أو اجتماعية خاصة بهم. الواضح في المقابل أن الغالبية العظمى من الإرهابيين المكفرين لأهلهم ولمجتمعاتهم، المستبيحين للدماء والأعراض، تتحدر من الطبقات المهمشة معيشياً وعلمياً وثقافياً، وهؤلاء تسهل برمجتهم والتلاعب بعواطفهم في الحروب الطبقية. العقائد والمذاهب والطوائف مجرد شعارات يستخدمها انتهازيون لأغراض اقتصادية طبقية. تضييق الفوارق معيشياً وعلمياً وثقافياً هو العلاج الوحيد للإرهاب.