لئن كان تاريخ الإنسانية قد أكد فضيلة التزام المثقفين بالقضايا الإنسانية ضد كل أشكال عدم الاكتراث، والاستقالة فإنه كشف في آن ما يقترن بالالتزام من تجاوزات تمنح للملتزم حصانة تامة في دفاعه عن القضايا القيمية دون اعتبار للوسائل والمجالات الملائمة له، بحيث يؤدي ذلك إلى خلط بين الحجاج والحماس، وبين فضاءات البحث العلمي، وفضاءات النضال الحزبي، وفي هذا الوضع ما يُضفي على تجربة الالتزام طابعاً إشكالياً يدعو إلى تحديد مقتضياته بأكثر دقة، إن هذه المقدمة التي تبناها أساتذة آداب الفلسفة المنهجية، معلنين أن إرادة العطاء المطلق هي التي تحملنا على الإفراط. ثم بيّن لنا "ماكس فيبر" أهمية الفرق بين التواصل داخل فضاء التدريس والتواصل خارجه، ليؤكد حرصه على عدم الخوض في القضايا القيمية داخل قاعة الدرس، وليتمكن الأستاذ من فصل واضح بين مهنته والموضوعية التي تنتهي بفرض قيم ما. كما أن الاستمرار في الزمن ينتج علاقات تاريخية ذات طابع مختلف ومتعدد، في حين أصبحت حياة الأفراد أكثر فردية وانعزالاً. وعنفاً وفوضوية، الكل يقاضي المجتمع ويصب جام غضبه على من يعارض فكره، وتوجه نوازعه، فمحيط كل توجه ينتهي إلى منظومات ومؤسسات لا تخدم إلا فئات معينة، تستعين بتلك الأفكار في طريقة اشتغالها ومعاشها. ومما تجدر الإشارة إليه أن اختلاف الغايات بقدر اختلاف السبيل إليها، فالسعادة أو الحرية أو الكرامة، هي من الغايات التي تعبر، من فرط تداخلها، عن نفس المقصد. ولكن السؤال الذي يحل ضيفاً على النظريات والغايات والمؤشرات، هل بوسع الناس أن يجمعوا على أفكار خاطئة، أم أن صواب الأقلية يعرقل رأي الأغلبية؟ فتتراجع القيمة لبعدها عن الأصل. علماً إن قوة الحجج التي فككتها المصالح والاستراتيجيات السائدة جعلت كل شيء ممكناً ومتاحاً بحكم السياسة والمعاصرة، فازداد عدد التابعين والمتراجعين، الذين لا تجد لهم مبرراً واضحاً ومقنعاً، إلا ان عمومية الأدلة يجب أن تشتغل وفق القدرات والملكات، وأيضا الجهد المتواصل لنشر حججه واعتقاده العقلي الذي يخلص الناس من مشقة التفكير بأنفسهم، وقناعتهم، ليجدوا أن كل ما حولهم يفكر ويخطط عنهم دون عناء. مما جعل معادلة الضرورة والإكراه تندرج ضمن مجال الطابع السائد. الذي جعل "ماكس فيبر" : يُضفي على تجربة الالتزام طابعاً إشكالياً يدعو إلى تحديد مقتضياته بأكثر دقة، فيقول : إن على الأستاذ الذي يشعر أنه حامل لرسالة نصح للشباب الذي يحظى بثقته أن يضطلع بهذا الدور عبر التواصل الشخصي لإنسان بإنسان، فإن كان يشعر أنه مدعو إلى المشاركة في الصراعات القائمة بين تصورات للعالم وبين آراء للأحزاب يَحسُن به أن يفعل ذلك خارج قاعات الدروس، ويدعونا ذلك إلى القول بعد رأي " فيبر" إن الفرق الذي دعا له واضح بين التواصل داخل فضاء التدريس والتواصل خارجه، فإذا كان الاضطلاع بالتفكير هو التزام المفكر بقضايا عصره وأحداثه، فما هي مقتضيات الالتزام؟ وهل في إمكان المفكر أو الأستاذ أن يضطلع بالالتزام دون أن تتأصل في وعيه مسؤوليته إزاء الآخرين؟ وهل هذا يجسد حدود الالتزام سواء في نظم المعرفة أو الحقيقة أو الوعي، أو الخطاب الذي ينتظره المجتمع ويأخذ به من خلال التأثير المنهجي أو التعليمي، والذي يرصد بدوره التحولات في الحياة العامة، والأحداث السياسية، التي يشهدها العالم اليوم، والمسؤولية حول أوضاع الناس المحيطين به، مما يجعله واعياً ومتذمراً ومتشائماً، لا يستطيع صنع تاريخ أو أوضاع جديدة، تساؤلات تنتظر إجابات يقينية لكي تستطيع العقول مواجهة المستجدات بمعيار الحقيقة.