النسخة: الورقية - سعودي من بين تلك الرسائل التي تصلني عقب كل مقالة تُنشر هنا على صفحة الرأي الحياتية، رسالة طويلة مشحونة بالتسفيه والتشكيك، كما تنطوي على أفكار مؤدلجة تكشف اتجاهات كاتبها. لا يعنيني من كل ما تضمنته من شحن عاطفي مسبوغ بالكراهية والمقت سوى سؤال استنكاري واحد استوقفني، بدا سؤالاً عميق الجذور اختصر بالنسبة إليَّ على الأقل لُب القضية السؤال هو: لماذا «أنتم» تكرهون الإخوان وتمثيلاتهم الصحوية؟ وتشنون عليهم حملاتكم المشبوهة والمغرضة؟ ثم أتبع سؤاله بإجابات على مقاس وعيه المؤمن تماماً بطهرانية صحوة الإخوان وأهدافهم السامية، وهذا نابع من فهمه لها. لن أسأل أو حتى أنبه بالمعنى المضمر لمعنى «أنتم»، فالمحاورات الإخوانية مع المخالفين لهم أو حتى المختلفين معهم تشي بمعنى واحد معروف، ومع ذلك سأحسن «الزن» وأقول إنه يقصد بـ«أنتم» المخالفين لنا. حينما قرأت الرسالة المتشنجة لم أشأ أن يأتي ردي بينياً بما يشبه الردية بلغة الشعراء الشعبيين، بل أجّلت ذلك لحينه لا تقريضاً ولا إجابة، بل لقراءة مستفيضة في الوعي الإخواني الصحوي في عالمنا العربي، على أساس أنهم ينهلون من مدرسة صحوية واحدة مع اختلاف التجارب وتباينها. ابتداءً أقول - تقريراً لا دفع تهمة - إنه لا أحد يكره أحداً هكذا جملةً واعتباطاً إلا إذا بدر منه ما يحرك الضغائن ويزرع الأحقاد، كما فعل «الإخوان» في الأعوام الـ70 الماضية من تأليب الأمة بعضها ضد بعض، ومحاولة الاستئثار بالحراك الاجتماعي باتجاه أهداف لا تخدمه، وهذا ما عملته الصحوة الإخوانية على الأقل في عالمنا العربي غير المستقر اجتماعياً وسياسياً ونفسياً. وأقول نفسياً أعني به بعض الدول العربية التي عانت طويلاً من نير الاستعمار، وتخلصت من كيانه الجاثم، بتقديم تضحيات كبيرة، وأصبح كل شيء فيما بعد بما في ذلك الحركات التنويرية حتى ذات الطابع الإسلامي مخيفاً ومقلقاً، فجاءت الصحوة لتصادف هوى الوعي الجمعي العربي المرتبكة .. وتتعامل معه بطريقة استغلالية فجة ينقصها الحكمة، لم ينجوا من هذه سوى الأحزاب التركية الإسلامية الأحزاب الإسلامية التركية التي عانت وصبرت من أجل مساعيها الرامية للمشاركة والتغيير من خلال الدستور الكمالي والقوانين العلمانية الضابطة لحياة الناس. بمعنى أن حزب جلال الدين أربكان في بدايات التأسيس من خلال حزبه الرفاه لا يعول على نفسيات مرتبكة ولا بقايا حطام استعماري سابق، بل على حاجات وطنية حقيقية أسفرت هذه التضحيات غير التأليبية عن قبول جماهيري كبير، تلا ذلك ضغط ليس من الجماهير الاسلامية فحسب بل من أجنحة علمانية وحتى عسكرية، بعدما رأوا الفارق الذي أحدثه حزب العدالة والتنمية في العاصمة إسطانبول. إذا لم يكن الحراك هنا وعظياً استقطابياً مؤدلجاً بقدر ما هو إرادة حقيقية شعبوية، للتغيير وفق معايير علمانية، وهذا ما لم يفهمه الصحويون العرب الذين اختطُّوا لهم طريقاً يتخذ من العنف والإرهاب قاعدة أولى ينطلق منها، منذ دخوله عرين السياسي ومناوشته للاستئثار بجزء من صلاحياته موقتاً، حتى يتم القضاء المبرم لكل المناوئين، وهذه الصفة التآمرية ديدن ثابت لهم منذ تأسيسها، وقد قرأنا في تاريخ «الإخوان» كيف كانوا يتواطؤون مع السلطة ثم ينقضُّون عليها بطرق عشوائية، لا تمتُّ إلى العمل السياسي المحنك بصلة، فهم يلعبون على المتغيرات عشوائياً بلا خطط محكمة، في مجملها لا تصب في مصالح الوطن ولا تخدم الشعب الذي اكتوى بويلات هذه الفوضى. إذ عمد «الإخوان» باللعب على الوتر الديني بأساليب نفعية تنفيعية، من باب «أطعم الفم تستحي العين»؛ لتأليب المنتسبين إليهم ضد السياسي متى أرادوا إخافته أو تقويض حُكمه، ثم لا يلبثون أن يعلنوا على الملأ أنهم مع السياسي مع أن بيعة «الإخواني» لا تصح إلا للشيخ الممثل للخليفة المنتظر، عقب تقويض كل ممالك الأرض، ولتحقيق ذلك لا يتورع عن الارتباط بأكثر من جهة داخلية وخارجية بطريقة تخابرية ممن يمثلون التيار، فهم من يتأكد معهم الولاء المطلق، وهذا يمثل صورة مصغرة للأمة المنتظرة، فلا يشبه «الإخوان» من أجل تحقيق مراميهم البعيدة إلا النظام الماسوني المتقن الأدوار والتنظيمات، فهم في ما بينهم لا يعلنون صراحة عن مبادئهم وأهدافهم، وهذه من الصفات الأخرى لسدنة «الإخوان» مأخوذة من مبدأ التقية الشيعية التي يبدو أن كثيراً من الشيعة قد تخلوا عنها أخيراً، فهو عندما يحدثك عن شيء فهو ذو أوجه وتأويلات كثيرة. وقد استطاعوا خلق حال من الكراهية ضد كل من يختلف معهم، وقد ناصبوا الفكر والإبداع العداء، وحيَّدوا اهتمامات مريديهم أو المنتسبين إلى تنظيمهم عن كل القراءات الجادة من خلال الطعن في المفكرين والأدباء، كما كان يفعل عراب الفكر الصحوي الإخواني جمال سلطان الذي انقض على «الإخوان» عقب الثورة لأسباب يحيلها بعضهم إلى عدم تحقق مطامع شخصية. في كتابيه «غزو من الداخل» و«دفاع عن ثقافتنا» وصف عصر النهضة بعصر تكريس الانحطاط، ممارساً انتقائية مفرطة في تعامله مع نصوص الرواد، قلده في محاولة مكشوفة وممجوجة الدكتور عوض القرني في كتابه «الحداثة في الميزان» الذي اتخذ من ارتجالية قراءة النصوص وطريقة القص واللزق وسيلة للتشكيك بالكتاب، ثم رأينا كيف اقتحموا بتعبئة شعبوية عاطفية مراكز الثقافة والرياضة والفن، وأحالوها إلى مراكز وعظية استقطابية، ليستأثروا بفريق منهم، لم يكن الهدف هدايتهم إلى طريق الحق بالحسنى بقدر ما هو استغلال شهرتهم للتأثير في العوام، وقد رأينا عياناً كيف تُنحر سمعة هؤلاء على الملأ ويُنبش ماضيهم ويتخذ محرقة للتطهير. وكما قال ابن رشد: «إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف دينى» وساعة تعلك هذه الشخصية العامة وتستهلك وفق أهوائهم تترك لفاقتها وفقرها ثم لا تلبث أن تعود طلباً للقمة العيش، ودفعاً لمسغبة مهلكة. أبعد كل هذا نسأل: لماذا نكره الصحوة؟ * كاتب وروائي سعودي. almoziani@