انطلقت الهيئة العامة للاستثمار في تبني إنشاء المدن الاقتصادية من اعتبار أنه مفهوم جديد يجمع بين المقومات الاقتصادية لكل من المدن الصناعية، والمناطق الاقتصادية الخاصة، والمناطق الحرة بحيث تشكل تلك المدن وفق هذا المفهوم مبدأً للشراكة بين القطاعين العام والخاص، يتحمل من خلالها القطاع الخاص تكاليف تأسيس هذه المدن، بينما تقوم الحكومة بتقديم التسهيلات وتوفير الخدمات التي يحتاج إليها المستثمرون من القطاع الخاص، ممن وضعوا في تصورهم أن هذه المدن ستكون الحواضن للصناعات أو الخدمات ذات الميزة التنافسية التي ستحظى بها شركاتهم، ويتحقق من خلالها جني الأرباح والنمو والمنافسة في الأسواق المحلية والإقليمية وربما أبعد من ذلك. لقد تم تبني هذا التوجه لإنشاء المدن الاقتصادية والعمل على تحقيق هذا المفهوم في إطار استراتيجية الهيئة العامة للاستثمار لتوفير بيئة مشجعة وجاذبة لرأس المال، وفرص العمل الإضافية فضلاً عن الإسهام في تحقيق التنمية المتوازنة بين مناطق المملكة، وتحويل الميزات النسبية التي تتسم بها تلك المناطق إلى قيمة تنافسية، وعهد حينها إلى الهيئة العامة للاستثمار، ومن ثم إلى هيئة المدن الاقتصادية مهمة الإشراف على هذه المدن لتكون مسؤولة عن وضع الخطط والتنسيق مع الجهات الحكومية ذات العلاقة لضمان أن ترى الفكرة النور، إلا أن الرؤية التي قامت عليها تلك الإستراتيجية، والنظر إلى بناء تلك المدن الاقتصادية على انه سيتم بتمويل أساسي وجوهري من القطاع الخاص، والإدراك بعد ذلك لمدى صعوبة تحقيق أهداف الإستراتيجية وفق تلك الرؤية، كانت من أهم الأسباب التي اسهمت في انسحاب الكثير من الشركات المساهمة في بناء تلك المدن، بالرغم من تعهدها مسبقاً بذلك، لينتهي الأمر إلى أن نجد المدن الاقتصادية الأربع التي أعلن عنها جميعها متعثرة هذا إن لم ير بعضها النور مطلقاً. اقتراح بعض أعضاء مجلس الشورى ضم المدن الاقتصادية للهيئة الملكية في الجبيل وينبع، لمواجهة ما آل إليه حالها تضاربت حوله الآراء، ففي الوقت الذي رأي فيه البعض أنه الحل الأمثل لتفادي مشكلة تعثرها، رأى آخرون أن هيئة المدن الاقتصادية تحتاج لدعم أكبر حتى تحل مشكلة التعثر إذ إن الهيئة الملكية للجبيل وينبع يغلب عليها التخصص في دعم نوع معين من الصناعات، ألا وهي الصناعات البتروكيماوية، ولا تمتلك الخبرة في إدارة شؤون المدن متعددة الأنشطة الاقتصادية الممولة من القطاع الخاص. هذا التعثر والآراء التي تطرح حوله تقودنا في الواقع للتأمل في إدارة التنمية بمدننا - أياً كان نشاطها الاقتصادي - وتمويل توفير احتياجاتها من المرافق والخدمات، التي نجد أنها لا تتعدى ثلاث صور، الأولى هي الإدارة والتمويل الحكوميان الموزعة مسؤولياتهما بين العديد من الأجهزة المختلفة في مرجعياتهما، على نحو يتولى كل واحد منها مهمة أو عدة مهام للقيام بتلك المسؤوليات، وهي الصورة التي نراها واضحة في غالبية مدننا، وما يعاب عليها هو القصور في كفاءة الأداء، والانخفاض في مستوى المنتج، النمط الثاني هو الإدارة والتمويل الحكوميان من خلال جهاز واحد فقط يتولى تلك المسؤولية، وهي الصورة التي يعكس المثال البارز لها إدارة التنمية في المدن الصناعية بالجبيل وينبع ورأس الخير ووعد الشمال ونحوها، وتمتاز هذه الصورة بالكفاءة العالية في الأداء، وجودة المنتج إلا أن تكاليف القيام بذلك عالية نسبياً. الصورة الثالثة هي الإدارة الحكومية بتمويل مصدره الأساسي القطاع الخاص، وهي التي نشهد محاولة تطبيق مثال لها حالياً في بعض المدن الاقتصادية وتعطي المؤشرات بتعذر نجاح تلك التجربة، إن لم يكن فشلها، الأمر الذي يوحي في النهاية بأن النجاح أو الإخفاق في إدارة التنمية وتمويلها،لا يعود في الواقع للجهاز الحكومي الذي تسند له المسؤولية في الإدارة وتوفير مصادر التمويل، بقدر ما هو النموذج الذي يتم تبنيه من الصور التي أشرت إليها للقيام بتلك المسؤولية، حتى في إطار المدن الاقتصادية.