بيروت: مازن مجوز بيوتها التراثية القرميدية العتيقة التي تنتشر على مداخلها أشجار «الزنزلخت» كما أمام الكنائس والباحات، تعكس جمالا وأناقة في تصاميمها، لكنها اليوم تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد أن غادرها أهلها ظنا منهم أن الحداثة أجمل. تبدو بلدة حاصبيا (جنوب لبنان) شبيهة بإيطاليا بأزقتها الضيقة وبيوتها المتلاصقة وأدراجها العملاقة، التي تحملك من حي إلى آخر أكثر جمالا. وعلى الرغم من إدراج وزارة السياحة البلدة، ذات المعالم التاريخية والفن العمراني المميز، على لائحة المناطق اللبنانية الأثرية، فإن أبنيتها الأثرية لا تزال تتخبط في دائرة الإهمال والنسيان. من هنا ولد مشروع «ستوب رجعني» التراثي في 12 مارس (آذار) الماضي، والهادف إلى إعادة الرمق لتلك المنازل. مشروع يقوم على التقاط الصور، يؤرشفها، ويظهر جماليتها، في بلد تناسى قيمة المنازل التراثية. وتقول المهندسة مروة علوان، صاحبة المشروع في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقتها على أحد أدراج البلدة: «بيوت حاصبيا شاهدة على جمالية العمران وإهمال المواطن، لقد باشرنا بحماية المواقع والمنازل التراثية وبأرشفة الصور الفوتوغرافية وإدراجها في ملصقات، لأننا بتنا على مشارف فقدان أثر الجدود وقيم التاريخ». وتضيف: «مشروعنا يهدف إلى حفظ إرث الأجداد، ووقف هجمة التدمير المتصاعدة للمعالم الأثرية والأبنية القديمة، لا سيما الحجرية والقرميدية»، وذلك بالتعاون مع مديرية الآثار، البلديات، التنظيم المدني والوزارات المعنية، وفي مقدمتها وزارتا الثقافة والشؤون الاجتماعية. في شوارع حاصبيا الضيقة، تعمل مروة علوان على التقاط الصور للمنازل العتيقة، تعرف تفاصيل البيوت الطينية وذات الأسقف الخشبية والقرميدية والتي يجري تأهيلها، حالة ثقافية تراثية أرستها مروة علوان في بلدة الزيتون والحمضيات بسبب الإهمال المزمن لمعالمها الأثرية، ومنها ستنطلق ناحية قرى لبنانية أخرى. ولكن هل هناك من يصغي ومن يدعم؟ تجزم مروة علوان بأن «لا آذان صاغية لما نقوم به، حاولنا أن نستقطب الفئة الشبابية، وعنوان مشروعنا اخترناه بلغة الإنترنت، علّ الشباب يتحرك ويضغط باتجاه حماية حضارة بلدنا العريق». من «مرجعيون» باتجاه الحاصباني - كوكبا، تطل حاصبيا بلدة المير بشير الشهابي، التي ترتفع 700 متر عن سطح البحر، حديقة عامة ومساحات خضراء تواكب رحلتك، محال تجارية طرق ضيقة باتجاه السوق العتيقة ذات المحال المتلاصقة والأبواب المرتفعة. في هذه البلدة تتعرف على نمط آخر من البيوت التراثية العتيقة ذات الحجارة المعقودة والنوافذ الخشبية، لكن معظمها متهالك، ففي أحدها والذي يفوق عمره 100 عام تنهمك ورد، بري ورودها، في حين الإهمال يصرخ من نوافذ أحد البيوت التراثية بجوارها الذي هجره أصحابه منذ سنوات. لم يذكر التاريخ أمة إلا ومرت على حاصبيا، غازية أو حاكمة. فعرفت البلدة أمما وحضارات متعددة من بينها الصليبية والعثمانية، كما الكنعانيين والفينيقيين إلى الآشوريين واليونان، والعرب والرومان والبيزنطيين الواضحة جليا آثارهم في أقسام السرايا الشهابية.. وحتى هذه القلعة التي يفوق عمرها 3500 باتت ضحية الحرمان. أينما تتجول في حاصبيا يستوقفك الطابع التراثي في بيوتها، فبالإضافة إلى هذه القلعة الشهيرة تجد فيها الكثير من الآثار من قلاع وجسور وأبنية قديمة يعود تاريخها للحقب المذكورة. بطابعها التقليدي تختلف حاصبيا عن غيرها من قرى الجنوب اللبناني، فهو يذكرك بالحياة القروية وسهرات الأنس الشعرية، التي لطالما شهدتها بيوت يعلوها قرميد أحمر، فضلا عن البساطة التي يمتاز بها أهلها، والذين تمكنوا على قلتهم من تكوين هوية «نوستالجية» لحاصبيا. بدوره، يؤكد رئيس جمعية محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون شوقي دلال، أن العمارة التراثية في لبنان وضرورة المحافظة عليها، كانت ولا تزال من أولويات عملنا وأهدافنا منذ سنوات عدة. ويوضح أن الجمعية، وبعد إطلاقها هذه المبادرة، ستقيم معارض محلية في كل بلدة يطالها المشروع، ومن ثم ستصدر كتيبا عن كل بلدة يضمّ صور المعرض، ليكون مادة إعلامية سياحية، ويساعد البلديات في تكوين ملف خاص بالعمارة التراثية. كل هذه الجهود ستتوج بالتوجّه إلى التنظيم المدني بكتاب مرفق بهذه الملفات، لإصدار القوانين المُلزمة لتصنيف هذه المناطق كقرى تراثية يمنع فيها إعطاء تراخيص بناء عشوائية، والعمل مع وزارة الخارجية لإقامة معارض عن العمارة اللبنانية في دول الانتشار اللبناني. آخر تفسير لاسم حاصبيا ما ذكره أنيس فريحة بأنه كلمة سريانية تعني بلاد الفخار أو قرية الجرار. كما ذكرت في سفر يشوع، بأنها محجٌّ لعبادة بعل جاد، وهو إله الحظ عند الشعوب القديمة، وعلى عهد بني يعقوب، دعيت حاصبيا ببلاد بني رأوبين، أحد إخوة النبي يوسف، وهي قبلة الموحّدين الدروز في خلوة البيّاضة. بفنون هندستها المعمارية سحرت حاصبيا أهلها وزوارها عبر التاريخ، لكن تارة كان الوضع المادي المتردي للسكان يدفعهم إلى الاعتماد على الحجر الصخري وإعادة إنشاء بيوتهم بـ«حجر البلوك» بدلا من حجر الصخر «المعماري القديم»، وذلك لضرورات البقاء في أرضهم، وتارة كانت بلدتهم والمناطق المحيطة تستهدف بالقصف اليومي الإسرائيلي لعشرات السنين. كل ذلك في ظل إغلاق المعابر أمام السكان، مما أدى إلى تهجير الأكثرية الساحقة منهم إلى داخل وخارج لبنان، حيث أنشئت منازل جديدة خلال فترة الحرب بشكل غير منظم، نتيجة غياب البلديات والتنظيم المدني ودائرة المساحة. فغابت أسطح القرميد القديمة ومعها القناطر «العقدية» و«العلية»، الأمر الذي ساعد على محو التراث المعماري للبلدة. في الختام، هل سينجح مشروع «ستوب رجعني» في إعادة إحياء هذه البيوت التراثية التي تختصر حكاية تاريخ وجغرافيا بلدة بكاملها، خاصة في ظل تأكيد الكثير من أبنائها أن البيوت «الحديثة العهد» مختلفة وغير قادرة على تحدي البناء التراثي التقليدي؟