النسخة: الورقية - دولي بالإضافة إلى التقرير الميداني من حقول القتل الدموية في سورية الذي يُرفع يومياً إلى مكتب الرئيس بشار الأسد والأسرة الحاكمة، والرئيس الإيراني حسن روحاني، لا بد من وجود تقرير ميداني يومي آخر، أهم، حول أوكرانيا، يطّلع عليه المسؤولون في دمشق وطهران، لحظة بلحظة. فتحركات الرئيس فلاديمير بوتين إزاء هذا البلد الحدودي النازف، وهشاشة ردود الفعل الأميركية والأوروبية تجاهها، تحمل رسائل واضحة حول سياسة موسكو في أوروبا والشرق الأوسط. وفي ضوء التقدم الملحوظ في الحوار الأميركي-الإيراني الشامل في شأن العلاقات الثنائية ومستقبل دور إيران «الروحانية» في الإقليم وما وراءه (العراق وسورية تحديداً)، لن يجد الأسد ما يثير القلق قبل خلوده إلى النوم كل ليلة. فما دام بوتين يصول ويجول في أوكرانيا، وروحاني يواصل دعمه للأسد، عدّةً وعتاداً، بالمال وبعناصر ميليشيات «حزب الله»، والرئيس الأميركي باراك أوباما لا يقدم للعالم موقفاً مقنعاً ينمّ عن أية صرامة تجاه بوتين، يدرك المرء لماذا لا يشعر الأسد بالخطر الآني. ولا شك في أن تلاقي المصالح في هذه اللحظة، بين بوتين وروحاني والأسد، ومعهم الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله، فشل في إسباغ شرعية سياسية على دور موسكو وطهران ودمشق. وإذا كان هذا التفسير لموقف الغرب من الوضع في أوكرانيا وسورية، بالتالي إزاء بوتين وروحاني والأسد، يؤمّن الغطاء الرسمي لدول الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، فإنه لا يعفيها من مسؤولية تجاهل استمرار النزيف اليومي في سورية وأوكرانيا وتعرضهما للتفتت الإثني والمجتمعي. لم يعد مهماً إن كان موقف واشنطن أو عواصم الاتحاد الأوروبي ينم عن «تراجع» أو «هروب» أو «تطور». فالضرر حصل والخطر بات على بوابات أوروبا الحدودية، ما دامت الإدارة الأميركية تتخلى عملياً عن دورها القيادي المباشر في العالم، معرّضة في ذلك تحالفها الغربي لحالة تعدّ سابقة من احتمال انقسامه على نفسه للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. فعندما وجد بوتين الفرصة تواتيه، وضع سياسته الجاهزة للتنفيذ قيد الاختبار، فاضحاً بذلك هشاشة التحالف الغربي، وبدا مرتاحاً إزاء غربٍ خالي الوفاض من أية استراتيجية تجاه أوكرانيا أم سورية. وعلى رغم إعلان بوتين أخيراً سحب قوات بلاده من الحدود مع أوكرانيا، فذلك لا يلغي واقعاً عبّر عنه في آذار (مارس) الماضي بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. فهو رأى إجراءه ذاك مجرد «استعادة» أرض روسية منحها الزعيم الروسي الراحل نيكيتا خروتشوف عام 1954 لأوكرانيا عندما كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي. حدث ذلك من دون أن يقابله رد فعل ذو معنى من الغرب الذي شعرت شعوبه بأن العالم لا يزال مكاناً خطراً على رغم انهيار الاتحاد السوفياتي ووضع نهاية عملية وحاسمة للحرب الباردة. هذا يحدث بعد مرور أكثر من عقدين على نهاية تجربة النظام الشيوعي في الحكم، وفشل الغرب حتى الآن في إقامة عالم أكثر أمناً وسلاماً. ولا شك في أن ما قدمه الغرب أثناء قيادة بوش ومعه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وقبلهما بيل كلينتون، لشعوبه، إساءة كبرى الى مفهوم الديموقراطية، نتيجة تطبيقهم سياسات خارج قواعد القوانين. فالقائمة طويلة أكان في كوسوفو بالنسبة الى كلينتون، أم في معتقل غوانتانامو والتعذيب النفسي أو التجسس المباشر والمهين على الحلفاء. ويا لها من مفارقة عندما تصغي الى محللين غربيين يقولون كيف إن حشد القوات الروسية على طول الحدود مع أوكرانيا أقل خطراً مما يفعله، أو لا يفعله، الغرب. صحيح أن هناك مصالح إستراتيجية لروسيا وخصومها في أوكرانيا وسورية، ولكن ليس هناك حل عسكري يضمن الاستقرار ووحدة أراضي البلدين من دون التفاوض على ذلك. لبوتين أسبابه الداخلية القوية التي تُظهر عدوانيته، إذ إن للتصدي علناً للغرب، بخاصة الولايات المتحدة، سحره الخاص، ولو الموقت، لدى الروس وغيرهم. فالصين والهند، مثلاً، تُسرّان وهما تريان أن ثمة جهة قادرة على وضع إصبعها في عين واشنطن. لكن في الوقت ذاته، ومهما بلغت رغبة بوتين في التطاول على الغرب تأسيساً لقيادته من دون منازع، من غير المتوقع أن تصمد موسكو أمام أي مقاطعة اقتصادية وتجارية جدية تنفذها عواصم الغرب. فالاقتصاد الروسي في النهاية صغير الحجم مقارنة باقتصادات الغرب، فهو أكبر قليلاً من اقتصاد إيطاليا وأصغر كثيراً من اقتصاد دول الغرب الأخرى. يبلغ حجم اقتصاد روسيا (إجمالي الناتج المحلي) 2014 بليون دولار، وهو يقل عن اقتصاد بريطانيا البالغ 2440 بليوناً، وعن اقتصاد فرنسا البالغ 2612 بليوناً، واقتصاد ألمانيا البالغ 3399 بليوناً، أو الصين البالغ 8230 بليوناً، أو اقتصاد منطقة اليورو البالغ 12194 بليوناً، أو اقتصاد الولايات المتحدة البالغ 15684 بليوناً. وما يُدرج روسيا في مصاف الدول الكبرى ليس اقتصادها بل سلاحها النووي. وعلى رغم ذلك، فالحلفاء التقليديون للولايات المتحدة، أكان في أوروبا أم المحيط الهادئ وآسيا (أستراليا والهند وأندونيسيا واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية) لم يعودوا، ولو بدرجات متفاوتة، يعتمدون أمنياً على الولايات المتحدة فقط. وهذه حالة بدأت تُعبِّر عن نفسها في الشرق الأوسط والخليج. ففي ضوء الخطة الأميركية المعلنة عن الانسحاب العسكري شبه الكامل من العراق وأفغانستان، باتت واشنطن تميل الى تفضيل أصدقائها الجدد في طهران والبدء ببناء شرق أوسط جديد. ولعل هذا ما يفسر فشل الادارة الأميركية في اتخاذ موقفٍ ذي معنى احتجاجاً على نشاط «حزب الله» في سورية. في ظل هذا الواقع المحزن، يبدو تقاعس أوباما والتحالف الغربي أكثر خطراً ومكراً من خطط بوتين في أوكرانيا أو سورية.