×
محافظة مكة المكرمة

قرى حلي تنتظر الخدمات

صورة الخبر

هذه هي الحقيقة التي تعتمر حتمية الأزل، ولكي تأخذ هذه الحتمية جلالها المهيب أو رهابها المذيب، لا بد من أن نذعن لجملة من المترتبات العجاف في مقدمتها أمران فادحان: أولهما: الاعتراف بهذه الحقيقة دون مفاصلة، والآخر: عدم امتلاك أي فتح في مهمة المعالجة والاستدراك، وكأنما المسألة برمتها ومضة من قاتل الأسرار انفلتت من كنف الكتمان إلى فضاء التشهير والإعلان. أقول ذلك، لأن الكارثة والمعاناة قد عاذت ولاذت بخصائص تحولات الحياة وبسمات تقلبات الوجود فلا مناص من التسليم بعدم الجدوى، ولا محيص عن الاستسلام لذلك الصمت الذي يتملكنا بعد قدرية الأحوال والحالات ولا يكتفي بذلك - أي الصمت - بل يختصرنا في هزة بالرأس فيها كل معاني التصحر والفناء. بعد أن انفض سامر معرض الكتاب، وفي جلسة تأمل ومكاشفة، كان أحد الكتاب المبدعين يتحدث بلوعة وحميمية وقلق عن كتابه الذي سيصدر قريبا، وفجأة طرح السؤال الآتي: (هل هذه المجاميع التي تغزو معارض الكتب في كل موسم، هل هي تقرأ؟) بعيدا عن الافتراضات والتوقعات المتفائلة، أجمع غالب المحصلات على أن النسبة المذهلة من هؤلاء لا تقرأ! والمسألة ليست استخفافاً بهذه المجاميع ولا يأساً من فلاحهم، وليست استكناهاً ولا قراءة لملابسات بعينها، وإنما هي انفتال وانجدال بروح الزمان والمكان وبشروط المراحل، وتبعا لذلك لاذنب لهذه المجاميع وهي تجسد سمات زمانها ومكانها وتوقع على شروط تحولاتها، ولذلك من المستحيل المقارنة بين الواقع الذي نعيشه الآن وبين حقب وأزمنة وأمكنة سابقة، وإن من الظلم الشديد أن نضع الإنسان المعاصر بشروطه وسياقاته وظروفه وجهاً لوجه مع الإنسان في أزمنة سابقة بشروطها وظروفها وإمكاناتها. التحليل الدقيق والقراءة الصحيحة تشير إلى أن هناك فئتين من الناس الذين تعنيهم هذه الإشكالية هما: الشبان والكبار إذا استبعدنا بشكل طبعي فئة الأطفال. أما الشبان وهم محور رئيس هنا فهم مسكونون بأمرين كبيرين: الأول، التسلية والترفه وتتبع مساقط المتع و(الاسفهلال)، والآخر: الانشغال بما تقتضيه أجهزة التواصل وفي مقدمتها الحاسوب، والهاتف المتنقل من مهمات إجادة استخدام لغتها وقاموسها ومن ثم الدخول إلى برامجها وعوالمها التي تشكل في ذاتها سحراً أزلياً لاتمكن مقاومته، بدليل ما يستبد بالشبان في أي ظرف أوسياق من الغياب التام والاندماج الكامل والاستغراق المذهل والانشغال الذي يشبه موت الإحساس بما حولهم. هل يمكن لأي شاب أن يقارن بين هذه العوالم التي تفتن كل قواه الظاهرة والخفية بالكتاب الذي يبعث على الملل والسأم وربما الخمول والنوم؟! (مستحيل يا رجل!). أما الكبار فإني أكاد أن أجزم بأن من الميئوس من نجاحهم وفلاحهم في مهمة التوفر على مرافقة الكتاب والقراءة المثمرة، فإضافة إلى انشغالهم بمطالب المعيشة التي تشعبت وتنوعت وتوالت وثقلت هم كذلك شغلوا بأنفسهم التي لم تعد تخلو من همّ يشتت التفكير، وغم يمحق الفهم والاستيعاب والتركيز، ومرض وألم وشكوى لاتمنح مجالا للانفراد بلحظة ثقافة وإضافة، وقد عبر عن هذه المعاناة وصورها وجسدها بشكل مؤثر محزن أديبنا المبدع الرائد الكبير (محمد العلي) ذات مقابلة إذ قال: (لقد أمسيت لا أستطيع أي شيء سوى السؤال عن موعد الغداء والعشاء)!! هذه إذا إشكاليتنا مع الكتاب والقراءة بالصدق كله وبالشفافية والمصارحة والاعتراف كما ينبغي، ومن المؤسف والمؤلم هنا أن مثل هذا التناول لايطرح حلولا، وإنما يكتفي بتشخيص المعضلة، وذلك بسبب أن القضية قضية أزمنة وأمكنة ومراحل وتحولات ليس في وسع أي عصا سحرية فكرية أونفسية أو - حتى - سوسيولوجية أن تفعل شيئا إزاء ذلك. الشيء الوحيد الذي نستطيعه هو: أن نسدد وأن نقارب، وأن نحاول إصلاح أحوالنا عبر تحولاتنا وظروفنا قدر المستطاع، والله المستعان.