النسخة: الورقية - دولي تكتب أورسولا لي غين، المقتربة الآن من سن التسعين، في الكثير من القضايا الفكرية والتحررية وتنشر كثيراً من المقالات في الصحف والمجلات المختصة حول قضايا المرأة والظلم الاجتماعي الذي يطاول الأطفال بخاصة، ومع هذا لا يزال كثر يعتقدون أنها مجرد كاتبة مختصة في الخيال العلمي. ذلك أن اسم لي غين يرد في كل المجموعات التي تضم أمهات روايات وقصص الخيال العلمي في القرن العشرين. وحتى اليوم نالت أورسولا لي غين عشرات الجوائز الكبرى، في مجال أدب الخيال العلمي، ولكن أيضاً في مجالات الكتابة الإنسانية في شكل عام، ومع هذا ندر أن ورد اسمها في عام من الأعوام بين أسماء المرشحين لجائزة نوبل للآداب. كثر على أي حال يرشحونها للجائزة قائلين إنها صاحبة الاسم والعمل اللذين يستحقانها أكثر من أي شخص آخر. من هنا لن يكون مفاجئاً لهؤلاء أن يعلن اسم أورسولا لي غين ذات عام كونها الفائزة بالجائزة الأسمى في تاريخ الأدب العالمي المعاصر، وأن يفغر كثر في هذا العالم أفواههم متسائلين، كالعادة، من أين جاء أصحاب نوبل بهذا الاسم؟ (!). > تحسباً لذلك، لا بأس من الإشارة إلى أن أورسولا لي غين كاتبة أميركية ولدت سنة 1929 (سنة بدء الكساد الاقتصادي التالي لانهيار بورصة نيويورك، كما تحب هي نفسها أن تقول). لكنها لم تبدأ نشر نصوصها في شكل جدي إلا عند بداية سنوات الستين من القرن العشرين، ناشرة حتى الآن عشرات النصوص في أدب الخيال العلمي (طبعاً)، وفي أدب الأطفال ودفاعاً عن قضية المرأة وعن النزعة الفوضوية السياسية، ناهيك بكون بعض كتاباتها تتناول المذهب الطاوي، كما أنها خلال فترة من حياتها عرفت بنزعة اشتراكية - تقدمية - مناهضة للشيوعية الستالينية. > ليس من السهل وضع لائحة بعناوين كل ما نشرته أورسولا لي غين منذ نشرها أول نصوصها سنة 1966، ولكن من السهل في المقابل القول إن روايتها «المحرومون: يوتوبيا ملتبسة» هي الأشهر بين أعمالها إلى جانب روايتيها «مدينة الأوهام» و «يد الظلمة اليسرى» وهي من رواياتها التي صدرت تباعاً أواسط عقد السبعينات. والغريب أن السينما - وحتى التلفزة - لم تقترب إلا في شكل نادر من أدب أورسولا لي غين على رغم كثرة كتاباتها وتنوعها، علماً أن هذه الروايات الثلاث التي نتحدث عنها هنا نالت كل منها جائزة «هوغو» العالمية سنة صدورها، كما ان رواية «المحرومون» أو «المنتزعة أملاكهم» نالت سنة 1974 جائزة «نيبولا» التي تعتبر من أرفع الجوائز في عالم أدب الخيال العلمي. وهذه الرواية الأخيرة هي التي نتناولها هنا. > «المحرومون» مثلها مثل الروايتين الأخيريين اللتين أشرنا إليهما، تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، وتدور أحداثها في عالم مستقبلي يلي عصر حضارة المجرة ما بعد الإمبريالي. وبالتحديد فوق كوكب أوراس الذي يُعتبر القمر الخاص بكوكب أناريس. وحين تبدأ أحداث الرواية ندرك أن ثمة سبعة أجيال مرّت منذ جاء شعب الأودوني ليقيم فوق هذا الكوكب بانياً فيه حياته وحضارته الجديدة. وهذا الشعب الذي يصل تعداده الآن إلى حوالى مليون ونصف المليون من السكان، يعمل في حياته اليومية في شكل تطوعي تابعاً النزعة الفوضوية، ما يعني أن ليس ثمة هنا محاكم ولا شرطة. فقط هناك هيئة بديلة عن الدولة - بالمفهوم الذي نعرفه للكلمة - تسمى «ارتباط الإنتاج والتوزيع»، وهذه الهيئة هي التي تتولى تسيير الشؤون اليومية والمعيشية للسكان. بالتالي، فإن كل السكان ينتمون إلى هذه التعاونية بصورة تلقائية. إذاً، فنحن هنا في بدايات القرن الرابع والعشرين، وسط سكان لا يعرفون سوى المساواة التامة بين كل الناس، المساواة الطبقية وبين الأجيال وبين الذكور والإناث، بل حتى اللغة التي ابتكرها السكان لأنفسهم هنا لا تعرف تعابير تعبر عن التراتبية الاجتماعية أو أية تراتبية من أي نوع كان. الكل سواء متساوون واللغة تعكس هذا بكل وضوح. اللغة تفتقر بالتالي إلى أي كلام شتائم تجريحي... لأن لا لزوم له. لكن الأرض كذلك شديدة الفقر، بالكاد يكفي إنتاجها التلقائي لسد حاجات الناس. من هنا، يتطلب العيش اليومي جهوداً جبارة يرتضي كل واحد ببذلها ضمن إطار تعاون كامل لا يجد الناس غضاضة في جعله قانوناً لحياتهم. وكذلك في جعله أساس التربية والتعليم الصارمين، ما يؤدي الى إيجاد نزعة فردية لكنها هنا تبدو شيئاً آخر غير النزعة الأنانية، بل هي نقيضها. > مجتمع رائع إذاً ومثالي؟ مجتمع اليوتوبيا الذي حلم به كثر من مفكري الأرض، منذ أفلاطون حتى العصور الحديثة؟ ربما. غير أن لهذه الميدالية وجهها الآخر بالطبع: ذلك أن كل هذا الواقع الذي يغيب فيه التنافس والتناحر، وتسوده في الوقت نفسه شتى ضروب الصعوبات المادية، هذا العيش المعزول، حيث يبدو التاريخ نفسه فيه متوقفاً، ويبدو التجديد كلمة لا معنى لها... كل هذا يجعل العيش في هذا المجتمع عيشاً رمادياً، لا لون له ولا طعم ولا رائحة... إنه رمادي مثل الغبار الذي يغطي كل شيء، وكأن التاريخ في إجازة. فما العمل؟ من ناحية مبدئية يعيش السكان حياتهم من دون أن يعوا واقعهم. إنهم يحسونه فقط ويشعرون بوطأته، لكن بين ذلك الشعور وبين وعيهم، خطوة لا يجرؤ أي منهم على اجتيازها... حتى اللحظة التي يتضخم فيها الوعي لدى المدعو شافاك، وهو عالم فيزياء عبقري يدرك بالتراكم السبب الحقيقي لشعوره بأن ثمة شيئاً يثقل على صدره: إنه هذا الواقع. هذا اللون الرمادي. فما العمل؟ > بعد تفكير طويل يقرر شافاك التوجه إلى كوكب أوراس الذي يعلم هو علم اليقين أنه المكان الذي يعج بالرأسماليين والثروات. صحيح أن السفر إلى أوراس يعتبر، في أعراف شعب آناريس، محظوراً من المحظورات الأكثر تماسكاً، لكن شافاك يقرر أن يخرق ذلك المحظور... لأنه أدرك أن العدم والفراغ هما البديلان الوحيدان لذلك. وإذ يسافر شافاك إلى هناك، يدرك بسرعة أن العيش على هذا الكوكب يشبه إلى حد كبير العيش على كوكب الأرض الذي حدثّته كتب التاريخ عنه. في البداية لا يبالي بذلك كثيراً... لأنه ينبهر بكل ما يراه، لا سيما بالثراء الذي يفقأ عينيه في كل مكان. غير أنه لاحقاً سرعان ما يتنبه إلى أن أهل أوراس، ما إن عرفوا هويته، حتى سجنوه داخل واحدة من أقوى الجامعات العلمية على سطح الكوكب، كي يدرسوا معارفه ويستفيدوا من التجارب التي يحملها من ناحية، ولكن من ناحية ثانية وهذا هو الأهم، كي يحولوا بينه وبين الاختلاط بالفقراء والثوريين المنتشرين في زوايا الكوكب الغني. في النهاية وبعد جهود يبذلها، يتمكن شافاك من الاجتماع بالفقراء والثوار، ثم يتمكن من العودة إلى كوكبه القديم وقد قرّ رأيه على ألا يسعى بعد ذلك للخروج منه. إذ من الأفضل العيش في مجتمع فقير عادل وقوي، على العيش في مجتمع ثري لكن، لا عدل فيه. > واضح هنا أن اختيار شافاك كنتيجة لمعايشته المجتمعين، إنما هو الاختيار الأيديولوجي الذي تتوجه إليه أفكار الكاتبة التي منذ تخرجها في الجامعة خاضت النضال الفكري ضمن توجّه مثالي يغلب عليه طابع الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية، إلى درجة أن كثراً من دارسي أعمالها أكدوا أن هذه الأعمال ليست - في نهاية الأمر - أكثر من أفكار أيديولوجية مغلّفة بنوع من الأدب الترفيهي. وهم محقون في هذا حتى إذا كان علينا أن نسلّم بأن الجانب الترفيهي في هذه الأعمال يتمتع بمستوى أدبي رفيع ونادر لدى كتّاب الخيال العلمي. وهذا - بالتحديد - ما يجعل أورسولا لي غين متميزة في هذا الأدب، بل يجعلها تشكل جسراً بين هذا الأدب الخيالي ودراسة الواقع الملموس... وذلك على خطى كبار اليوتوبيين من أصحاب المدن الفاضلة.