استشراف عالم تعددي جديد ينقسم الى تكتلات قومية متنافسة، أصبح واقعاً يؤسس لفكر جديد يتخطى ما كان وما هو كائن، وتوظيف كل التحولات المعاصرة ومفاهيم المرحلة الحاضرة، التي هي استمرار للحداثة، في خطاب جديد ومفاهيم ونظريات لها خصوصية ترتبط بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي استجدّت خلال القرن الماضي. هذه التحولات البنيوية أشّرت الى الدخول في التاريخ، بمعنى مرحلة ما بعد الحداثة، التي تعني حداً فاصلاً وتحولاً حضارياً لا يمكن فهمه من دون معرفة التأثيرات العالمية الجديدة التي تهدف الى تعددية وديموقراطية أوسع. ان التوجه الأوسع نحو الديموقراطية الذي يظهر في خطاب ما بعد الحداثة وبخاصة في الحركات النسائية والتعددية الثقافية ومرحلة ما بعد الاستعمار، هي خطابات لها خصوصية وأهداف ترتبط بالعولمة والاقتصاد العالمي والاستخدام المكثف لتقنيات الثورة المعلوماتية ووسائل الاتصال الإلكتروني. فمنذ بدايات القرن الماضي بدأ الاهتمام يتزايد بدراسة اللغة والمعنى والدلالة في الدراسات الفلسفية والاجتماعية والألسنية وغيرها، والابتعاد التدريجي عن الدراسات التي تقوم على التراث الفلسفي العقلاني لعصر التنوير بخاصة الكانتي والهيغلي من جهة، وتطور الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية والفينوميــــنـــــولوجيـــــة الهايــدغـــرية والفلسفة التأويلية على يد غادامير من جهة ثانية، التي مهدت الطريق لظهور الفلسفة الوجودية والبنيوية والتفكيكية والحوارية وغيرها. كما أخذت الأعمال الأدبية والجمالية تتعامل مع هذا المنهج الحواري، وبخاصة عند ليزلي فيدلر وسوزان سونتاغ وإيهاب حسن في الستينات من القرن الماضي، كما تطورت في السبعينات وبخاصة في فن العمارة، كما عند روبرت فنتوري وماركس جنكس وغيرهما. وفي الفلسفة ونقد الحضارة كما عند جين فرنسواز لوتارد وبوديلارد وفردريك جيمسون وريتشارد رورتي، وفي الحركات النسائية، كما عند ليندا نيكلسون، وفي علم الاجتماع كما عند سيغمونيد باومن وإرنستو لاكلو وشانتال موف. وكان التقدم العلمي والتقني الذي أنجزته أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر جعل الإنسان مركز الكون، إذ لم يعد هناك شيء فوق الإنسان، وأصبح التاريخ هو الحاكم الأعلى. في مثل هذا العصر، كما يقول ياسبرز، لابد للقيم الحسية والأخلاق النفعية من أن تزدهر على حساب القيم الإنسانية النبيلة التي ترتبط بالضمير والأخلاق، من أجل تنمية الميول والغرائز التي تنزع إلى اللذة المباشرة. ونتيجة لهذه الأزمة الحضارية اتخذت الفلسفة موقفاً مسؤولاً لمساعدة الإنسان على التغيير وعلى تحقيق ذاته وفرديته وتحقيق وجوده وهو ما شدد عليه هايدغر وكذلك كيركيرغارد الذي اعطى للوجود معنى جديداً، إذ لم يعد الوجود مرادفاً «للكينونة» وإنما «للذاتية» وبذلك تعتبر الوجودية أول فلسفة قالت بأسبقية الوجود على الماهية، فالإنسان موجود أولاً وخلال وجوده تتحقق ماهيته خلال حياته الإنسانية. فهو إنسان حرّ ومفكّر ويستطيع تجديد موقفه من الأشياء فيصنع ذاته، وبذلك يسبق وجوده معناه. والحال إن فكر ما بعد الحداثة، من الناحية المنهجية، لا ينفر في الواقع من الجدلية الهيغلية ولا من التحليلات التاريخية التي تبنتها الماركسية الجديدة، لأن كثيراً من المقولات التي تعبّر عنها نماذج ما بعد الحداثة، يجدها المرء في الحداثة ايضاً، ولكن المفارقة هي ان ما بعد الحداثة تتجه اليوم نحو منهج باختين وليس هيغل، فليس من الضروري ان تقوم على مقولات جدلية. فمنهج باختين يدعو الى النقد الحواري، ومن مزاياه انه يسمح بأن تتكامل فيه المناهج التعددية الحديثة كلها في تفاعل وتلاقح وتداخل منهجي كما استخدمته البنيوية والشكلانية والتفكيكية والتأويلية وكذلك التاريخية والاجتماعية والواقعية وغيرها. وميخائيل باختين (1895-1975) من أوائل المفكرين والنقاد المعاصرين الذي كرس اهتماماته لموضوعة الحوار، فالحوار ظاهرة عامة ولا تنفصل عن النطق البشري وأساليب الاتصال والتواصل الاجتماعي وعن كل ما يملك معنى ودلالة وحيث يبدأ الحوار يبدأ الوعي. ويتحقق الوعي لدى شخصيات باختين في الحوار ومن خلاله، فهو موجّه الى الخارج دوماً، أي الى الذات والآخر، ولا يمتلك الوجود لذاته. وهو ما يجعل الإنسان موضوعاً للحديث. وتبرز أهمية باختين ومساهماته الأساسية في إرساء قواعد علم اجتماع ماركسي لدراسة النصوص الفنية. وهو يسعى الى إخراج النقد الماركسي من مأزق يعتقد أنه ما زال واقعاً فيه حتى اليوم، وهو مأزق البقاء خارج النص، وبمعنى آخر أدقّ عدم إدراك كيف أن ما خارج النص ليس خارجه حقاً، وإنما هو عميق التدخل في داخل النص ذاته. وهو يستند في منهجه الاجتماعي إلى الجدل بين العام والخاص ويعتبر العبارة الإنسانية نتاجاً للتفاعل بين اللغة المنطوقة وسياق النطق أو بين الكلمة الفردية وسياقها التاريخي. في كتـــابه «قـــضــــايا شعرية دوستويفسكي» يقدم لنا باختين تحليلاً عميقاً للطابع الحواري الذي أطلق عليه «الرواية البوليفونية»، أي المتعددة الأصوات، وهو صنف معيّن من النثر الروائي الذي يتحقق فيه الحوار بأكمل أشكاله. فهو يرى الحوار طوّر الرواية من موقع الى آخر، أي من الأسلوب الى المروّية، كصورة فنية لعلاقة الإنسان بالعالم. وجوهر الحوار هو موضوع الجمال، وجوهر موضوع الجمال يظهر في الرواية ويتمّ وفق ضوابط يحدّدها علم الجمال والذي لا ينـفـصل عــن الإطار الثقافي الذي ينشأ عنه. فهو جزء من النسيج الثقافي، ويصبح العمل الفني بلا معنى حين يخرج عن سياقه العام. ويعتبر باختين أن الحوار من الآليات الرئيسة في وظيفة الثقافة والأدب والفن في المجتمع. فهو يشكل أحد أهم محطات الاتصال المتبادل بين الناس، ومن دونه تتجمد العلاقات والنشاطات الاجتماعية. ويتفرع عن ظاهرة الحوار في الفنون والفكر والفلسفة ظواهر أخرى في مقدمها الوضع بين الأشخاص الذي ينشأ على قاعدة الحوار ويخضع لعلاقة ديناميكية بين أبطال الحوار. والحوار يتخطى بعيداً إطار الاتصال الشائع بين شخصين، لأنه يدخل «كل كلمة» إليه، فهو يفرض منطقه الخاص الذي يرتبط بأشكال الاتصال البشري وعن كل ما له معنى وأهمية. ويبدو وكأنه حوار سيميائي لكل تعارض فكري ونزاع أيديولوجي. فالحوار لا يعني إعطاء أذناً صاغية للآخرين، كما يتصور بعضهم، بل يعني ان أي كلمة أو تلفظ تتغيّر طبقتها من خلال عدد كبير من المصطلحات المضادة الأخرى والتي من خلال معانيها نستطيع فهمها. ويقترب هذا المفهوم من «التناص» الذي جاءت به ما بعد البنيوية. إن مساهمة باختين الأساسية تتمثل في كشفه عن الوجود الاجتماعي اللصيق داخل النص اللغوي ذاته وأن المناهج التي تتجاهل الجوهر الاجتماعي الحقيقي للأدب والفن ولا تحاول الكشف عن طبيعته وخواصه تسقط الأوجه المختلفة لهما وتتجاوز في طرق تشكيلها العلاقة الاجتماعية المتبادلة التي تربط المبدع بالمتلقي.