النسخة: الورقية - دولي يبدو أنّ الطبيعة المدنية للدولة ودور الدين في الحياة العامة قد حُسما في تونس، عبر دستور هو الأول من نوعه (في العالمين العربي والإسلامي) بما يتضمنه من مواد تتمتع بميزة قد تعتبر معلماً فارقاً. وقد أسفرت المفاوضات بين الأحزاب السياسية، والتسويات الكامنة في عملية الصياغة عن إشكالات وتناقضات بين بعض مواد الدستور. ويوضح عياض بن عاشور، رئيس اللجنة العليا للإصلاح السياسي، أنّ هذه التناقضات «مرآة لتناقضات المجتمع التونسي»، وهي ترسم ملامح لثلاث معارك سياسية رئيسة مقبلة. ولعلّ أكثر هذه المعارك إلحاحاً النقاش حول شكل قانون الانتخابات المقبل والذي حسم بإقرار المجلس التأسيسي التونسي قانوناً جديداً الأسبوع الفائت. فهذا العام سيشهد انتخابات أساسية أربعة هي: الرئاسية والبرلمانية ومجالس الولايات (المحافظات) والبلديّة. وما يجعل هذه الانتخابات على قدرٍ أكبر من الأهمية، صيغة تقاسم السلطة بين مناصب رئيس الجمهورية ورئيسي الوزراء والبرلمان، إضافةً إلى دور البرلمان الجديد في الحفاظ على مبادئ الدستور الأساسية وترجمة المواد والهئيات الدستورية بأطر تشريعية واضحة. لقد برزت أهمية عملية إنشاء هذه الأطر التشريعية لتطبيق مبادئ الدستور في حوار مسرّب بين راشد الغنوشي وبين أئمّة سلفيّين، دار حول غياب ذكر الشريعة كمصدر أساسي للشرعية، عن المادة الأولى من الدستور. وبرّر الغنوشي موافقة «النهضة» على حذف ذكر الشريعة باعتبارها خطوة تكتيكية، في ضوء التوازن الحالي للسلطة بين مختلف المكونات السياسية، وأيضاً في ضوء سيطرة المعارضة على قطاعات أساسية، كالإعلام والاقتصاد. وتنصّ المادة الأولى على هوية تونس الإسلامية التي جادل الغنوشي بأنها كافية في الوقت الراهن، لأنه لا يريد أن ينقسم التونسيون إلى معسكر مؤيّد للشريعة ومعسكر معارض لها. كما أكّد أنّ التغيير التدريجي لقوانين الأحوال الشخصية، من ضمن قضايا أخرى مدرجة في الدستور، قد يصبح ممكناً في المستقبل، لأنّ «الذي يضع القانون ليس الدستور، فالقانون يفسّره القوي». وتكمن المسألة الأساسية الثانية في النضال من أجل الحرية. ذلك أنّ بنوداً أخرى قابلة للتأويل أيضاً. فالمادة 6 تكفل حرية الضمير وتحمي المقدّسات الدينية في آن، وهو مبدأ استُخدم أحياناً كثيرة لفرض رقابة على المفكّرين والإنتاجات الفنيّة ومنتقدي المعتقدات والممارسات الدينية حول العالم. بعبارة أخرى، فالبند نفسه الذي يكفل حرية الضمير، يفرض أيضاً رقابة على حرية التعبير في المسائل الدينية. ويشعر بعضهم بالقلق من أن يسعى أعضاء البرلمان الذي سينتخب قريباً إلى تمرير قوانين تتعلق بدور الدين في الحياة العامة لأنهم لم يتمكّنوا من إدراج تلك البنود في الدستور. وتندرج المادة 39 في الروحية نفسها، وتدعو الدولة إلى ترسيخ الشعور بالانتماء العربي- الإسلامي في نفوس الشباب، وتجعل المعركة من أجل السيطرة على النظام التعليمي أشرس مما كانت عليه في الماضي. ويقف هنا مناصرو التوجّه المدني للدولة ضد التيارات الأكثر محافظة في اجتهاداتها الدينية. إضافةً إلى ذلك، يقوّض التلقين العقائدي للأطفال والشباب في سن مبكرة مبدأ حرية الضمير، ويحدّ مع الوقت من الطابع المدني للدولة وحقوق المواطنة العادلة. وتكمن الخطوة الأخرى الحاسمة في عملية الانتقال السياسي السليم في توسيع نطاق السياسات التشاركية بما يتجاوز الانتخابات، لتشمل الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وفي حين أنّ الحق في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية مكرّس في الدستور التونسي، فالآليات التي يمكن من خلالها التأكّد من أنّ هذه الحقوق مكفولة من ناحية الممارسة، ليست واضحة. فإناطة السلطة السياسية والإشراف التنموي بالمستوى الإقليمي، بموجب المادة 47، تتيح انخراط المواطنين والمجتمعات المحلية ومشاركتهم المباشرة في القرارات التي تؤثّر في حياتهم. كما تجعل دور مجالس الولايات (المحافظات) والبلديات المحلية مهمّاً جدّاً. ويمكن للهيئتين أن تؤدّيا دوراً أساسيّاً في الترويج للأنشطة التنموية التي تستجيب الحاجات المحليّة وتُخضع المسؤولين المنتخبين لمزيد من المساءلة. وخير مثال على ذلك بلديّة بورتو أليغري في البرازيل، حيث يشارك المواطنون بشكل مباشر في تحديد حاجاتهم واتخاذ القرار بشأن موازنة بلديّتهم. أما في تونس، فقد تتضمّن هذه المقاربة توفير الوصول المتساوي إلى مجموعة كاملة من الخدمات العالية الجودة، فضلاً عن صوغ حلول محلية للتحديات الوطنية. كما قد يتيح هذا الأمر فرصة كبيرة للشباب، ولمنظمات المجتمع المدني والناشطين المدنيين على نطاق أوسع، للانخراط بطريقة أعمق في النضال الاجتماعي والسياسي، وللدفع قدماً في الإصلاحات ذات الأولوية على المستويين المحلي والإقليمي. وعلى نحو مماثل، فإنه إذا تمّ إشراك منظمات المجتمع المدني والناشطين في تصميم وحوكمة اللجان المستقلة المحددة في الدستور، كهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال المقبلة، فهذا سيمكّنهم من أن يؤدّوا دوراً حاسماً في دفع قضية العدالة الاجتماعية إلى الأمام. وتظهر تجارب فنلندا وتشيلي وبيرو في قضايا مماثلة مدى فعالية هذه المقاربة. وليست الدساتير وثائق منعزلة وقائمة بذاتها. إذ يُعتبر اعتمادها خطوة رئيسة في عملية سياسية كبيرة ومعقدة، تتطلب انخراط المواطنين بشكل فعال. ويعتمد نجاحها إلى حد كبير على استعداد النخب السياسية وقدرتهم على العمل معاً، على رغم الانقسامات في ما بينهم، لبناء توافق مجتمعي حول الأطر التنفيذية لمبادئ الدستور الأساسية ولمعالجة المسائل الخلافية والمشاكل المزمنة. وبالنسبة إلى التونسيين، يعني هذا الأمر أيضاً معالجة الإرث الثقيل الذي خلّفه نظام بن علي، بما في ذلك الحاجة إلى آليات للعدالة الانتقالية والإصلاحات القضائية والأمنية. لقد أرجأ الدستور التونسي أموراً كثيرة للبتّ في مرحلة التطبيق، الأمر الذي يفسح مجالاً كبيراً للمناورات والألاعيب السياسية. وهذا بمثابة سيفٍ ذي حدّين. ففيما يفتح إمكانية تقويض القواعد الجوهرية للعقد الاجتماعي الجديد، فإنه يسمح أيضاً لشرائح واسعة في المجتمع بأن يتصرّفوا بموجب التزاماتهم كمواطنين، بالعمل معاً والحفاظ على المبادئ الأساسية لانتفاضتهم والحرص على عدم تقويض روحية الدستور واعترافه بالحقوق الجوهرية. وفي ما يخصّ الحكومة والنخب المجتمعية الأساسية، ينبغي مواصلة اعتبار السعي إلى التوافق خياراً سياسيّاً. ومن شأن ضمان المشاركة المجتمعية على نطاق واسع عبر آليات تشاركية فعالة والتوافق حول تفسير المواد الرئيسة، لا سيما تلك المتعلقة بتحقيق العدالة الاجتماعية في ظروف اجتماعية - اقتصادية صعبة، أن يوطّدا السلام السياسي الهش. وقد تشكّل الأمثلة الدولية عن إلزام الدستور الدولةَ بتوفير دعم مؤسساتي للحق في المشاركة على المستويات كافة، على غرار دستور الإكوادور، نماذج تستطيع الحكومة التونسية أن تحذو حذوها. ويمكن تحقيق هذا الدعم من خلال آليات متنوعة، كجلسات استماع عامة وهيئات رقابة ومجالس استشارية. إضافةً إلى ذلك، يستطيع شبان تونس أن يؤدّوا دوراً أكثر محورية في المرحلة الانتقالية، عبر التركيز على استراتيجية للنضال السياسي تشمل ائتلافات واسعة النطاق. فوفقاً لإحدى الناشطات الشابات: «ثمة تحدٍّ بالغ الأهمية نواجهه اليوم، يكمن في كيف يمكن لنا، نحن المنتمين الى حركات شبابية، أن نتغلغل في المجتمع، وأن نبني تحالفات واسعة، ونجد بديلاً ثوريّاً فعليّاً لا يتعلّق بهوية أو إيديولوجية ما، بل بتحويل المجتمع». والواقع أنّ الدستور الجديد، على رغم التناقضات المتجذرة فيه، مهّد الطريق أمام إصلاح أكثر فعالية. وسيكون ضمان تأثيره الإيجابي في حياة المواطنين اليومية امتحاناً حقيقيّاً للديموقراطية. فالنضال من أجل مستقبل تونس بدأ للتوّ. * باحثة أولى في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي