قبل أن أكتب هذا المقال طافت أحداث القرن العشرين في ذاكرتي. بعضها شهدتها وبعضها قرأته في الكتب. تولى ذاك القرن إخراج أعنف الحروب وأشدها ضراوة. تراكمت الأحداث وتعاظمت الكراهية بما كان ينذر أن الشعوب سوف تعود يوما إلى العصور المظلمة. كل شيء بناه الإنسان أصبح عرضة للفناء. كيف يمكن أن تزول أحقاد حرب سوت المدن المزدهرة بالأرض وقتلت ملايين البشر؟ من يعرف مبلغ العداوة بين ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال لا يمكن أن يتخيل سوى أن احد الطرفين سوف يعمل على إبادة الآخر وإخراجه من الوجود. ولكن بعد أقل من ربع قرن أصبحت ألمانيا وفرنسا حليفتين وزالت الحدود بينهما. من يعرف العداوات بين الشعوب الغربية لا يمكن أن يتخيل أن الأمر سيكون ما نراه اليوم. الميل للسلام ليس من شيم الشعوب الغربية وحدها. قرأت قبل قليل الحرب الكبرى التي دارت على الأرض الفيتنامية بين الولايات المتحدة وبين الشعب الفيتنامي. قتل من الأمريكان ما لا يقل عن خمسين ألف جندي. وقتل من الشعب الفيتنامي ما لايقل عن مليونين معظمهم أبرياء. كانت الطائرات الأمريكية تصب نار جهنم بمئات الأطنان على الغابات الفيتنامية بما عرف بالأرض المحروقة. جل ضحايا القصف الأمريكي فلاحين لا علاقة لهم بالحرب والعالم. بعد أربعين عاما جاء جيل أو جيلان لم يخوضا الحرب وبالتأكيد قرآها في كتبهما المدرسية لكن من حسن حظ الشعب الفيتنامي لا يوجد في بلادهم دعاة فتنة وتجار حروب. لم نسمع أن كهنة الدين البوذي يشتمون الأمريكان على منابر معابدهم. تدهشك اليوم العلاقة بين فيتنام وبين أمريكا. كلا الطرفين نسي الحقد والكراهية والدماء وبنى علاقته ومصالحه على فضيلة النسيان، فالحياة تمضي قدما. آلاف السياح الأمريكان ومليارات الاستثمارات والتبادل التجاري بين الدولتين وكلّ احتفظ بروايته عن الحرب. من كان المخطئ ومن كان المجرم ومن كان المعتدي ومن كان.. أصبحت قضايا أكاديمية لا تزرع بين الشباب لإيقاد نيران الماضي المؤلم. بينما نحن مازلنا نشتغل على الحروب الصليبية ونستصرخ صلاح الدين. أحقادنا تجدد وتنظف وتستزرع طازجة في قلوب صغارنا كأنها حدثت يوم أمس. إلى هذه اللحظة ونحن نتكلم عن الصليبيين. لا يوجد شيء اسمه حرب صليبية اليوم. لكننا مازلنا نغذي بها أطفالنا. لم يعد هناك شيء اسمه أندلس ومع ذلك مازلنا نتحدث عن الأندلس كأن فرصة استرجاعها قائمة. في الحرب الأخيرة بين الجيش الفرنسي والإرهابيين كتب أحد دعاة الفتنة تغريدة يقول فيها (الحقد الفرنسي على الإسلام يدمر تمبكتو حاضرة الإسلام).. وأخذ يسرد في تغريدات أخرى عن تاريخ تمبكتو المجيد. هو يعرف (أو لا يعرف) أن تمبكتو اليوم اختفت منها حتى أطلال الماضي. زالت من الوجود لم يبق من ذلك الماضي سوى الاسم. الرجل يبكي في تغريداته كأن فرنسا جاءت تدمر نيويورك لا مجموعة من الأعشاش والبيوت الطينية الهرمة وعدد من البؤساء الأميين الفقراء الذين انصرف عنهم التاريخ منذ مئات السنين. ما الذي يعنيه أن نبدد حياتنا وحياة صغارنا في الحقد الذي لا يريد أن ينتهي. ما الذي يفيدني أو يفيد ابني الصغير أن ننشغل بما جرى بين الحسين ويزيد بن معاوية قبل ألف وأربعمئة سنة. لماذا لا نترك التاريخ يرقد بسلام بين أوراقه. إذا اردنا أن نساعد (إخواننا) الصوماليين فعلينا أن نخبرهم أن الفيزياء والكيمياء والرياضيات هي حبل خلاصهم من تخلفهم وجوعهم ولا شيء آخر. وإذا اردنا أن نمد لهم يد العون فعلينا أن نبعث لهم أساتذة يعلمونهم كيف يصبحون مهندسين وأطباء وفنيين ومديرين ومجلين لإنسانيتهم. الحرب المقدسة الوحيدة التي يتوجب على المسلمين إشعالها هي الحرب على دعاة الفتنة لا غيرهم..