القاهرة: جورج ضرغام «لا يستطيع قارئ هذا الكتاب أن يخرج سليماً من عدوى ما، وحتى إذا كان القارئ من غير المتحمسين لأعمال نيكوس كازنتزاكي مثل: زوربا والإغواء الأخير والإخوة الأعداء وتقرير إلى غريكو والمسيح يصلب من جديد، وغيرها فإنه يجد نفسه هذه المرة أمام عمل من نوع خاص، هو عمل نسجه كازنتزاكي في عزلته الأثيرة، خيطاً خيطاً، على غرار بعض الكائنات التي تبكر فجراً من أجل اصطياد ما تجود به الدنيا وتتلهف إليه الروح».هذا ما يقدم به محمد علي اليوسفي لترجمته لكتاب «المنشق نيكوس كازنتزاكي» لزوجة الكاتب اليوناني الكبير «إيليني كازنتزاكي»، وهذا العمل المختلف والرائع هو حياة كازنتزاكي التي أرادها كما عاشها، وعاشها أيضا كما أرادها، لأنه كان يرفض ما هو مختلف عما رسمه لنفسه من مبادئ ورغبات وسلوك ورؤية للعالم قبل كل شيء، تلك الرؤية لم تقتصر على الإرث الإغريقي وسير عظماء اليونان، بل اغتنت أيضا، منذ البدء، برؤى إشراقية متأتية من تأثر كازنتزاكي العارم بفريدريك نيتشه وهنري برجسون (وقد تتلمذ على يديه في باريس) والتصوف البيزنطي والإسلامي، لذلك نجد قاموسه اللغوي غنيا بمفردات ومصطلحات مثل الروح والجسد، في ثنائياتهما الأبدية، وكذلك الوثبة الخلاقة أو الوثوب الخلاق، ولحظة الحدس الإشراقي، والأحاسيس بمختلف معادلاتها اللغوية الممكنة، والكائن الأسمى المتفوق.لكن ذلك لم يمنع كازنتزاكي من النهل انطلاقا من روح الشعب المعذبة في جزيرته «كريت»، كما في أرجاء العالم، معتبرا أن الروح السامية تلعب دور المحامي الذي يرافع أمام محكمة الكون، ودفاعا عن عامة الناس وقضاياهم النبيلة، غير أن ذلك الدفاع يثري الروح بدورها، لأنها كما في «زوربا» تقارع فلسفة أخرى، هي فلسفة العيش التي يرسمها لنفسه رجل من عامة الشعب يدعى زوربا، وسوف نجده في هذا الكتاب رجلا من لحم ودم، عبر رسائله، متابعا لعبته العبثية هربا من العجز والشيخوخة: «لم أتزوج إلا من باب المزاح، لا أخشى الموت، ولا أخشى أخطر عناصر الطبيعة، حتى إذا جاء ذنب نيزك ليضربنا ويحولنا إلى سلاطة طماطم، الشيخوخة تخيفني، وأجد نفسي تحت رحمة قرار عائلي يأمرني بمراقبة وحش، طفل صغير، حتى لا يحرق نفسه، حتى لا يسقط حتى لا يتعلم الرذالات».ذلك ما يكتبه «زوربا» في رسالة إلى كازنتزاكي بعد هجرته إلى مناجم أخرى في صربيا بحثاً عن المال الذي يستر به شيخوخته، وليس الشخوص وحدهم هم الذين يتقاطعون في حياة كازنتزاكي وأعماله، كما لاحظنا مع زوربا، بل هناك اللغة أيضا، إذ إن بعض المقاطع في رسائله تتشابه والكثير من المقاطع في مؤلفاته، لا سيما «الأوديسة»، التي ظلت ترافقه طوال حياته كمشروع عمر، وفي وعي كازنتزاكي أنها رؤية معاصرة لعوليس بعد نحو ثلاثين قرنا من تحركه في الأوديسة الأولى أي أوديسة هوميروس.هذا الكتاب الذي جمعته إيليني زوجة كازنتزاكي من خلال رسائله ومذكراته وبعض نصوصه غير المنشورة، يبين أن حياته على خلاف الكثير من الكتاب الكبار كانت متطابقة مع أعماله إلى حد التداخل، ويكشف هذا الكتاب عن كفاح رجل لم يتزحزح عن مواقفه برغم كل المصائب التي حلت به، لكنه يتضمن أيضا قصة حب فريدة يمكن أن تشكل زاوية أخرى لقراءة الكتاب، وقد يكون بطلاها نيكوس كازنتزاكي الطيب والشرس في آن واحد، وإيليني التي ذاقت الأمرين بسبب عناده في ملاحقة مثله الأعلى: «عندما أسافر أندم على اضطهادي لك».هناك نساء أخريات كثيرات، لأن كازنتزاكي لم يتزوج ثانية إلا عندما صار وزيرا في بلاده، وقبل ذلك اتفق مع صديق له على «ميثاق الأيام العشرة»، التي يلتقيان فيها سنويا بينما تنوب الرسائل عن اللقاء بقية أيام السنة التي ينعزل فيها الناسك من أجل الكتابة، حتى مجيء الشيخوخة، ثم الموت في صفحات مؤثرة جدا من الكتاب، إنها قصة حب لكنها قصة تعطش للحياة والخلود والإبداع: «سوف أموت وكتب كثيرة لا تزال في داخلي»، ولرؤية العالم الذي تنقل فيه نيكوس كازنتزاكي، وأصر على توديعه قبل موته، قصة التطلع إلى الحرية والعدالة، برغم الحروب والقتل والدمار، إطارها اليونان التي تضطهده والغرب الذي يمزق روحه، وروسيا التي أسهمت في خيبة أمله، والشرق الذي يعشقه كازنتزاكي إلى حد الاقتناع بأن دماً عربياً يجري في عروقه.