×
محافظة مكة المكرمة

تنفيذ 50 مشروعاً تأهيلياً بسوق عكاظ

صورة الخبر

هناك تقارير علمية جادة؛ تتحدث عن آثار نفسية سلبية؛ يتعرض لها الناس جراء متابعاتهم لما يجري حولهم من حوادث، وما يتعرضون له من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، ولأنا نعيش في آخر الزمان الذي يقرب فيه البعيد، وينطق فيه الحديد، كما كان يقول ويتنبأ بذلك أجدادنا، فإن كل ما يجري في هذا الكون هو حولنا وقريب منا، لأن عالمنا الفسيح هذا، أصبح قرية كونية واحدة، تفتح نوافذها على بعضها، ويرى الجيران بعضهم بعضاً دون حواجز تذكر، فالوسائل الإعلامية المتنوعة، تنقل ما يجري في هذه القرية على الهواء مباشرة، والجيران يرون بعضهم ويتحدثون إلى بعضهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل دائم، ولأن هذا الكم المنقول والمتداول بين سكان هذه القرية، جله مما يغم ويحزن ويكدر وينغص على الناس حياتهم، فصحة الناس النفسية بكل تأكيد في خطر دائم. ) أنا واحد من هؤلاء الناس الذين يعيشون في هذه القرية الكونية، وقد عشت عدة أشهر- مثل أي واحد منكم- في أجواء ما يجري حولنا من صدامات واحتراب ودماء تسيل، ووقعت تحت سطوة آلات إعلامية كثير منها؛ يبيع الوهم، ويسوق الدجل، ويسوغ الشر، ويسهم في نشر الفتن، وإذا ما التقيت بسكان قريتي الكونية على وسائل التواصل الاجتماعي، وجدت الحال أسوأ مما يبث على الفضاء عبر القنوات، حتى لم يعد أمامي إلا الخروج من هذا المأزق بأي طريقة كانت. ) مساء الثلاثاء الفارط؛ فزعت إلى ساحة سوق عكاظ في الطائف، وسط جموع غفيرة من أرباب الأدب والشعر الذين جاءوا إلى هنا من أمصار عربية مختلفة، ومن أقطار دولية كذلك. ) ميمون بن قيس الملقب بالأعشى، وصناجة العرب كذلك، الذي توفي سنة 629م الموافق سنة 7هـ، برز إلينا على الصخرة العكاظية في شخصيته الشعرية والمسرحية والنقدية. ابن منفوحة الشهير بسفرياته على ناقته، شكل لي في واحدة من لحظات اجتلاء سيرته، وصفة مضادة لزكام الأخبار السيئة، ومضادة لمشاهد القتل والدمار التي تغطي فضاء حياتنا اليومية. ) وسط هذا الركام الغث من المشاهدة اليومية الصادمة، يمكن أن يجلس كل منكم وراء حاسوبه إلى عشرة أيام قادمة؛ ليجد نفسه في قبة الشعر العكاظية في الطائف المأنوس، عاصمة الشعر والأدب في المملكة العربية السعودية. وإذا أردتم الخلاص من مؤثرات شخصيات القتل والتكفير والتفجير من حولكم، فتعمقوا إذاً في الشخصيات العكاظية من زمن الأعشى ورفاقه، الذين كانوا في قمة مجدهم الأخلاقي على أقل تقدير. ) الأعشى الذي زارنا في عكاظ، كان رحالة من نوع فريد، من قبل ظهور الطائرات والسيارات، ركب ناقته من قريته منفوحة بالرياض، وطاف جزيرة العرب، فوصل إلى نجران واليمن وعدن والبحرين والحجاز، ثم ارتحل إلى العراق وفارس والشام والحبشة.. كان ضعيف البصر، وقد ودع حبيبته وهو لا يقوى على وداعها فقال: ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ) من أعجب قصصه أنه كان في رحلته الموسمية إلى سوق عكاظ، فاعترضه عربي اسمه (المحلق الكلابي)، يدعوه لداره، وقام المحلق بنحر ناقته لضيفه، وأخذ يشوي اللحم ويكشط للضيف من سنامها وكبدها، وحول الضيف بنيات للمحلق يخدمنه، عرف الأعشى أنهن غير متزوجات، فلما خرج من عنده أنشد: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرّق تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلّق يداك يدا صدق فكف مفيدة وأخرى إذا ما ظن بالزاد تنفق ) كان الأعشى يردد هذه الأبيات في سوق عكاظ، فلما أتمها؛ اقترب منه المحلق مسلماً، فأمسك بيده ونادى: يا معشر العرب.. هل فيكم مذكار يزوج ابنه على الشريف الكريم، فما قام من مقعده ذاك؛ إلا وبنات المحلق قد خطبن وزوجن..! ) هذه صورة من وصفة زمن الأعشى، فيها حب التنقل والترحال في أرض الله، فلذة العيش في التنقل، وفيها الكرم العربي والوفاء، وفيها رسالة من رسائل سوق عكاظ التي تتمثل في نشر مكارم الأخلاق بين الناس،كيف لا ورسولنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، جاء متمماً لمكارم الأخلاق. قال في هذا: (إنما بعثت متمماً لمكارم الأخلاق). ) هناك صوركثيرة في وصفة زمن الأعشى، فالشاعر كان كثير التأمل في الحياة والموت، وكان يشدد في شعره على أن الإنسان غير مخلّد، وقد انتقد الظلم وخضوع الناس للظلمة، وكان يشير إلى النعمان ابن المنذر الذي كان يفرق عطاياه وهداياه على من يمر بهم، ويقسم أمر الناس بين السعادة والشقاء، فهذا نهار مشرق، وذاك ليل مظلم، وقد مات النعمان في السجن الذي وضعه فيه كسرى. قال: ويقسم أمر الناس يوماً وليلة وهم ساكتون والمنية تنطق فذاك وما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات وهو محزرق ) أعترف أني بهذا اللقاء المدهش مع الأعشى في سوق عكاظ، قد ابتعدت بعض الوقت عن منغصات كثيرة، والتفتُّ إلى مبهجات عديدة، فالحياة العربية في عصريها الجاهلي والإسلامي ليست بهذه الصورة الموحشة التي نعيشها اليوم، وهناك مثل وقيم وأخلاقيات كانت تحكم الناس، وتحدد علاقاتهم ببعضهم، لم تعد واضحة المعالم في مشهدنا المعاصر، وإنما نعود إليها زائرين بين وقت وآخر، في مثل هذه المحافل الشعرية والأدبية والحضارية، فإذا لم يبق إلا مثل هذه المحافل الشعرية لتنقذنا مما نحن فيه، فلم لا نكثر منها، ونستنطق من خلالها الأعشى، وامرأ القيس، وعنترة ابن شداد، ومن عاش في زمنهم الجميل. ) وصفة من زمن الأعشى البعيد، قد تُسكّن من آلامنا، وتهدئ أعصابنا، وتريحنا ولو مؤقتاً من: (كفّر، وفجّر، ونحر، وقتل، وانشق، واحتل)..! H.salmi@al-jazirah.com.sa alsalmih@ymail.com