×
محافظة المنطقة الشرقية

تفحم مواطن وسائقه الآسيوي

صورة الخبر

تكاد المصادر الأدبية القديمة تُجمع على أن بديع الزمان الهمذانيّ صاحب بداهة وارتجال، واستجابة سريعة لأي مطلب أدبي يُعرض عليه، فلديه قدرة عجيبة يتدبّر بها المعاني المقترحة عليه من عويص الشعر والنثر بكلام تتضافر ألفاظه مع معانيه في اتساق يميّزه عن سواه من كتّاب عصره، وبما أن ثقافة المجالس كانت هي السائدة في عصره، فلا يتردد في ارتجال مقامة تكون مسك الختام في المجلس، أو أنه يملي رسالة مُلغزة تذهل الجميع ببراعتها. ولم يكن هذا السلوك غريبا آنذاك، فالليالي في مجلس الوزير أبي عبدالله العارض، حسبما وصفت في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي كانت تختتم ب"ملحة الوداع". وقد أشاد الشريشيّ، الشارح الأكبر لمقامات الحريريّ، ببداهة الهمذانيّ، ونوّه بارتجاله الذي لا يعرف التردّد، فكان يطلب من الحاضرين في مجلسه أن يتقدّموا بمقترح، فيبادر لتوّه مرتجلاً مقامة توافق ذلك الغرض. تمرّس الهمذاني بمعرفة الموضوعات الأساسية في ثقافة عصره، فلا يكابد في إشباع أي مقترح يُعرض عليه، وكان يطوف على المجالس في همذان، وأصفهان، وجرجان، ونيسابور، وسجستان، وغزنة، على غرار تطواف أبي الفتح الإسكندري الذي جعله بطلا لمقاماته، فتشبّع بالذخيرة الثقافية السائدة في تلك المجالس. ثم انه نبغ دارسا على أيدي كبار علماء العربية، ومنهم اللغوي الشهير ابن فارس، صاحب "المجمل" ف"أخذ عنه جميع ما عنده، واستنزف علمه، واستنفد بحره". وتغصّ كتب التراجم بإطراء بداهته، ومعظمها يدور في فلك ما خصّه به معاصره الثعالبي في "يتيمة الدهر" الذي تقصّى أخباره، وأدرج فقرات طوال من رسائله ومقاماته، وأفرد له موقعا متميزا في كتابه، وكان قد التقاه، وتعرّفه، وحيثما تعلّق الأمر به تتعالى نبرة التغنّي عند الثعالبي. تكشف القطعة الآتية- وقد أصبحت مثلا في الاحتفاء ببديع الزمان- طبيعة التقدير الذي يكنّه صاحب اليتيمة له، وهي تفسّر بداهته التي نحن بصدد مناقشتها، فهو "بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرّة العصر، ومن لم يلق نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ومن لم يدرك قرينه في ظرف النثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم ير ولم يرو أن أحدا بلغ مبلغه من لبّ الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسحره". إلى ذلك فهو صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان "ينشد القصيدة التي لم يسمعها قطّ وهي أكثر من خمسين بيتا فيحفظها كلها، ويؤدّيها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفا ولا يخلّ بمعنى، وينظر في الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذّها عن ظهر قلبه هذّا، ويسردها سردا. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها". وبعد أن رصف الثعالبي هذه الخصال الفريدة، راح يفصّل ما له صلة بقوة البداهة "كان يُقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه ثم هلم جرا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشّح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم، ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كلّ عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه، ونَفس لا يقطعه. وكلامه كله عفو الساعة، وفيض البديهة، ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الحدّة، وثمرات المدّة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع. وكان يُترجِم ما يُقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغريبة، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف يطول أن تستقصى. وكان- مع هذا كله- مقبول الصورة خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة، مر العداوة". شخصية فريدة اتّصف بها بكر عطارد، رمز الفصاحة والبداهة في القرن الرابع الهجري، ففيها كل ما ينبغي توفّره عند كاتب في العصور الوسطى: البداهة المعزّزة بمعرفة شاملة تسهّل لصاحبها النهل من ذخيرة لا تنفد من الأخبار والأفكار والألفاظ، فيؤدي ما يطلب إليه بسرعة الطرف، فلا يعرف عجزا، ولا يخامره شكّ بنفسه، فيترجم شعرا بين الفارسية والعربية مراعيا قواعد النظم في اللغتين بلا تعثّر، وهو التغلبيّ المورد، المضريّ المحتد، العربي النسب، الفارسي الموطن، ولا وقت لديه للتصنّع، ومداورة المعاني، والبحث عن الألفاظ، فذاكرته مملوءة بما يحتاج إليه، وقريحته جاهزة للإفضاء بما يريده منها. وإلى كل هذا فقد كان ظريفا، خلوقا، ودودا، وحسن الصورة. ولكن حذار من عداوته. وصف الهمذاني بأنه "قريع الخوارزمي، ووارث مكانته". وقد جرت فصول المقارعة في نيسابور بمناظرة حامية انتصر بها على الخوارزمي، الذي كان ضليعا بعلوم العربية قاطبة، ولم يكن في الحسبان أَنَّ أَحدا ينبري لمواجهته، ويجترئ على مناظرته" فلمَّا تصدَّى الهمذاني لمساجلته، وتعرض للتحكك به، وجرت بينهما مكاتبات ومباهاة ومناظرات ومناضلات، وأَفضى السنان إلى العنان، وقرع النبع بالنبع، وغلّب هذا قومٌ وذاك آخرون، وجرى بينهما من الترجيح ما يجري بين الخصمين المتحاكمين والقرنين المتصاولين، طار ذكر الهمذاني في الآفاق، وارتفع مقداره عند الملوك والرؤساء، وظهرت أَمارة القبول الإقبال على أموره، وأَدَرَّ له أَخلاف الرزق، وأركبه أَكناف العزّ، وأجاب الخوارزمي رحمه الله تعالى داعي ربّه، فخلا الجو للهمذاني، وتصرفت به أحوالٌ جميلة، وأسفارٌ كثيرة، ولم يبقَ من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلاَّ دخلها وجبى ثمرتها، واستفاد خيرها وميرها، ولا ملك ولا أَمير، ولا وزير ولا رئيس إلاَّ استمطر منه بنوء وسرى معه في ضوء، ففاز برغائب النعم، وحصل على غرائب القسم". استغرق الاختبار ثلاث ليال متفرقات نفذت فيه طعنات مهينة في الطرفين لم تراع المقام، وانكشفت عداوة الهمذاني المريرة التي أشار إليها الثعالبي، وانتهى الأمر بانتصاره وانهيار الخوارزمي مغشيا عليه بعد أن خانته ذاكرته، فلم يجار رجلا في مقتبل العمر أظهر معرفة واسعة بطريقة وقحة. ثم توّجت حياة الهمذاني بموت عاجل حينما بلغ الأربعين، فتضاربت الأخبار في سبب ذلك بين من قائل إنه مات مسموما، وقائل إنه قد عرض له "داء السكتة وعجل دفنه، فأفاق في قبره وسُمع صوته في الليل، وإنَّه نُبش عنه فوجد وقد قبض على لحيته ومات من هول القبر". أحاط الغموض حال البديع في آخر أيامه، ولم يتردد ياقوت في التصريح بما قيل إنه قد "جنّ في آخر عمره إلى أن مات". وما أن أشيع خبر وفاته حتى "قامت عليه نوادب الأدب، وانثلم حدّ القلم. وفقدت عين الفضل قرّتها، وجبهة الدهر غرّتها، وبكاه الأَفاضل مع الفضائل، ورثاه الأكارم مع المكارم، على أنَّه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلَّد من بقي على جبهة الأَيَّام نظمه ونثره". وقد قال الذهبي عنه، بأنه" كان فصيحا مفوّها، وشاعرا مفلقا". انتزع الهمذاني اعترافا كاملا بوصفه ناثرا وناظما، وتلك كانت شروط البداهة والفصاحة في زمنه. لو جرى تحليل جملة هذه الأخبار المتزاحمة عنه في كتب القدماء، فسوف تتمخض عن سيرة فتى قادته سرعة بديهته إلى الموت، وربما الجنون، فلم يتمهل بالإقامة في مدينة، ولا انصاع طويلا لراع، ولا وارب في إخفاء موهبته، فكان يتباهى بها، وحينما تخطّى عقبة الخوارزمي انتزع اعترافا نهائيا، ثم قضى نحبه. في السجال الأدبيّ الذي انبثق قبل عصر البديع، وظهر بسبب الانشقاق في الذائقة الأدبيّة بين القدماء وأتباعهم من شعراء البداهة والارتجال، كالبحتريّ، وبين المُحدَثين الذين تنكّبوا لذلك كأبي تمّام، فأحلّوا الصنعة الجديدة محلّ البداهة الموروثة، كانت البداهة تحيل على الأصالة والاعتراف بالمديونيّة لتراث القدماء، والامتثال لمعايير عمود الشعر، فيما كانت الصنعة تهمة تلحق بكل مجدّد في التراكيب اللفظية والمعنوية، فيوصف بأنه دخيل يخفي عجزه بالتعمية على المعاني مستخدما حوشي الألفاظ. ولم يقتصر الأمر على كون الجدال ظلّ أدبيًّا، إنما كان جزءًا من سجال عامّ حول انشقاق ظاهر بين قواعد موروثة شبه مقدّسة لكنها مفتقرة للكفاءة، وبين معايير جديدة ما زالت محلّ شكّ فلم يقع الأخذ بها. كيف يمكن قبول أسلوب الهمذاني على أنه نموذج للبداهة النثريّة بعد أكثر من قرن على الصراع الناشب بين البداهة والصنعة؟ ثمة تفسيران، أوّلهما التحوّل العميق في الوعي الأدبيّ، بحيث صار أسلوب الهمذانيّ مثالاً للبداهة الشائعة، ولكنّ التفسير الأكثر كفاءة في هذا السياق يتعلّق بموضوع الصيغ الجاهزة، ذلك الرصيد اللغويّ الذي كان يتدرّب عليه الكتّاب، وينتقون منه ما يناسب أغراضهم وحاجاتهم في الأحاديث الشفوية التي تقتضيها المجالس، والرسائل الكتابية التي يفرضها عليهم وضعهم الأدبي والوظيفي. كان الشاعر الجاهليّ يعوم وسط شبكة متلازمة من صيغ شعريّة جاهزة، تتكرّر في المقدّمات الطلليّة، وفي الرحلة، وفي الغرض. وقد استخدم غالبيّة الجاهليّين صيغًا لفظيّة من رصيد مَشاع بينهم. الاختلاف بينهم في درجة توظيف الصيغ، وليس في نوعها. وهو أمر ظهر في الشعر العذريّ طوال العصر الأمويّ فقد نهَل من معجم محدود استنزفه الشعراء فتشابهت الملامح الأساسية لأشعارهم. في الحالتين ظهر تماثل في طرق التعبير، والوحدات المعنويّة، وفي تكرار المشاهد، ومكوّنات القصيدة، حتى تختلط على القارئ خصوصيّات الشعراء الجاهليّين والعذريّين. وظهر تماثل لا يخفى في أساليب كتّاب العصر العباسيّ الأول. وبالنظر للدور الوظيفيّ للكتابة النثريّة في الدواوين الرسمية فقد حُبس الكتّاب في مجال مشترك يحكمه معجم لغويّ تضخّم فيه رصيد الصيغ الجاهزة، وجرى تصنيف العبارات المناسبة في كتب شاعت في تلك الحقبة، ونُظمت الأسجاع في أطرٍ إيقاعية محدّدة، وإليها كان يرجع الكتّاب لتلبية حاجاتهم في تدبيج الرسائل، ثم استقامت قوالب إنشائية كانوا يتدرّبون عليها، وانتهى الأمر إلى ظهور صيغ نثريّة مسجوعة يتعلّمونها بالمِران الحذق، ويتفنّنون بها في رسائلهم، وخطبهم، ومقاماتهم. يضمر الارتجال في طياته معنى القول السريع الذي يفتقر إلى الرَويّة، ويحيل على التعجّل، ويرجّح أن وصف الهمذانيّ بذلك مصدره قدرته الفائقة السرعة في إملاء نصوص تنهَل من الرصيد الثابت للصيغ الجاهزة التي استقرّ أمرها في مدوّنات الأدب، ومرويّات المجالس، فمهارته مهارة انتقاء، وبداهته بداهة اختيار، وقد تباهى بذلك في منازعته مع الخوارزميّ، فانتصر عليه لأنه لفت الانتباه إلى قدرته في سرعة الانتقاء بحضور كاتب كبير خانته ذاكرته، وتلك كانت مأثرة حسبت له. على أن كل هذا لا يجرّده من موهبة الابتكار، فالارتجال يطوي في تضاعيفه معنى الابتداع أيضا. صار الهمذانيّ يرتجل من رصيد لغوي شأن سابقيه من شعراء الجاهليّة، والشعراء العذريّين، وشعراء التصوّف، والشعراء المدّاحين، ومعاصريه من كتّاب الرسائل الديوانية، فجلّهم يَمتحون من بئر واحدة، ويرحلون في أرض مستكشفة. ويستعينون بصيغ تطوّرت عبر الزمن، وأمكن تعلّمها، كما تتعلم فنون البلاغة، والعروض، ومطالع القصائد، والاستهلالات النثريّة، وقد ازدهرت الصيغ الثابتة في الحكايات الشعبيّة والخرافية التي تقوم هياكلها الكبرى، ومعظم مشاهدها السردية على قدرة الرواة في توظيف الصيغ الجاهزة. التكرار في كلّ أدب يستند إلى صيغ ثابتة، ولم تنجُ المقامات من ذلك في إسنادها، واستهلالاتها، وحبكاتها، وخواتيمها.