(الشهرة تأخذ الإنسان بعيداً عن حياة الإنسان الشخصية).. عن عمر ناهز 87 سنة، توفي يوم الخميس 17 أبريل 2014م في مدينة مكسيكو بالمكسيك، الروائي العالمي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز (لقب بغابو في أمريكا اللاتينية) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982م، ورائد الواقعية السحرية التي أبحرت خارج ضفاف الكاريبي في خمسينيات القرن الماضي إلى كل بقاع العالم. اشتهر بروايته (مئة سنة من العزلة) الصادرة سنة 1967م، والتي بيعت منها في الأسبوع الأول ثمانية آلاف نسخة لتصل في السنوات الأخيرة إلى خمسين مليون نسخة بعد أن ترجمت إلى جميع لغات العالم ومنها العربية، التي قام بها سليمان العطار بعد سنة واحدة من حصوله على جائزة نوبل، وقد وصفها الدكتور صلاح فضل المتمكن من اللغة والثقافة الإسبانية بأنها سلسة اللغة، واضحة العبارة، لا تنفر القارئ المحب للعربية من روايات ماركيز كما تفعل كثير من الترجمات غير الموفقة. كما حصل على قدر كبير من العناية بترجمة ونقل نصوصه إلى اللغة العربية، فأصبحت متاحة للقارئ العربي في كل مكان. قال عنها الشاعر الكبير بابلو نيرودا: (إننا اليوم أمام اكتشاف أنجز باللغة الإسبانية منذ دون كيخوطي لسيرفانتيس). وقد أقيم في سنة 1987م احتفال كبير في أوروبا وأمريكا اللاتينية بمناسبة الذكرى العشرين لصدورها، واعتبرت أفضل كتاب أجنبي في فرنسا سنة 1969م، كما اعتبرت في الولايات المتحدة الأمريكية كواحدة من أفضل اثني عشر كتاباً سنة 1970م. حصل على العديد من الجوائز والامتيازات والأوسمة عن مجمل أعماله في أمريكا اللاتينية وأروبا، كما تم تكريمه بافتتاح متحف يحمل اسمه أقيم في بيته الذي ولد فيه في (أراكا تاكا) في شمال كولومبيا بعد إعادة بنائه سنة 2010م، وهو مخصص لذكراه. كما أطلق اسمه على شوارع بعض المدن (لوس أنجلوس) و(مدريد) و(سرقسطة)، وتأسس مركز ثقافي يحمل اسمه في (بوغوتا)، من طرف دار النشر (صندوق الثقافة الاقتصادية)، وذلك سنة 2008م. وكان قبل وفاته قد كتب رسالة إلى محبيه وأصدقائه في العالم عندما اكتشف الأطباء إصابته بسرطان الغدد اللمفاوية سنة 1999م تحت عنوان (لا تنتظر أكثر). ومما جاء فيها: (لو شاء الله أن ينسى أنني دمية، وأن يهبني شيئاً من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي. ربما لن أقول كل ما أفكر فيه، لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله، سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلاً وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكل نيام... لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر.. تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلقه.. تعلمت منكم أشياء كثيرة، لكن، قلة منها ستفيدني لأنها عندما ستوضب في حقيبتي أكون أودع الحياة. قل دائماً ما تشعر به، وافعل ما تفكر فيه.. فاطلب من الله القوة والحكمة للتعبير عنها وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك). أراد غابرييل غارسيا ماركيز أن يكون صحفياً وفي الوقت نفسه روائياً. ولعل صورته كصحفي لا تقل أهمية عن صورته كروائي. فكان صاحب أشهر عمود صحفي لسنوات طويلة في الصحف الناطقة باللغة الإسبانية، وقد جمع ما كتبه في أربعة مجلدات. وانتهى بتأسيس رفقة أخيه مؤسسة الصحافة الأيبرو أمريكية الجديدة FNPI سنة 1994م غايتها مساعدة الصحفيين الشباب للتعلم على أيدي أساتذة كبار والدفع بهم نحو الطرق الجديدة للكتابة الصحفية، وفي سنة 1999م اشترى مجلة (كامبيو CAMBIO) ليحقق حلماً قديماً بامتلاك وسيلة إعلامية خاصة في بوغوتا. أما عالم الرواية فقد بلغ فيها الذروة بما أنجز من أعمال رائدة نذكر منها: الساقطة 1955م، ساعة النحس 1961م، فريق البطريك 1975م وغيرها من الروايات والقصص والحكايات، والمسرحيات وسيرة ذاتية تحت عنوان (عشت لأروي) والتي تتناول حياته وطفولته حتى عام 1955م وكانت من أكثر الكتب مبيعاً في مكتبات العالم الناطق بالإسبانية، أما عن السينما، فقد أنجز أكثر من ورشة لكتابة السيناريو في مدينة مكسيكو كانت حصيلتها مجموعة من الأفلام. فقد تمازجت الكتابة الصحفية والروائية وكتابة السيناريو لتمنح نصه السردي ثراء متفرداً ينطوي على صورة بصرية مهمة، ويصبح بذلك أحد كبار مبدعي الأدب في العالم بأسره. وأنجزت عنه العديد من الأعمال الأكاديمية في أمريكا اللاتينية وإسبانيا. كما حظيت أعماله باهتمام كبير من طرف النقاد في العالم الذي وصل إليه إنتاجه الأدبي، وقام الأديب (ماريو فارغاس يوسا) بنشر كتاب عن حياة وأعمال غابرييل غارسيا ماركيز. لقد ضمن غابرييل غارسيا ماركيز كتاباته وتعليقاته نقداً مريراً للأوضاع في أمريكا اللاتينية، ويقذف بحجارة سخريته إلى الديكتاتوريين، ولا يتوقف عن شجب العته والانحلال اللذين أصابا تلك الدول التي تقع فريسة للأوهام والديكتاتورية. ولعل أهم ما كان يبهر الأوروبيين في مواقفه تلك الطريقة التي يتحدث بها عن الحب، وجميع أشكاله بما في ذلك المعاناة، والآلام، والأحاسيس، وأوقات الانتظار، والخيالات، والتصورات، والأوهام، والعربدة، والملذات، والتذلل، والخنوع، (فالحب هو الأيديولوجيا الحقيقية عندي) حوار معه بمناسبة صدور روايته الحب في زمن الكوليرا (أوريدت برس). وكتابة الرواية عنده تتم في زمنين: الزمن الأول هو التفكير والاختمار في الرأس، والزمن الثاني هو النقل على الورق، أي الكتابة؛ وتستغرق كتابة الرواية ما بين عام ونصف وعامين، ويشكل الفصل الأول المرحلة الأصعب عنده، وهو يستغرق وقتاً أطول بكثير من مجموع الفصول الباقية. لأن الفصل الأول هو الذي يحدد (شخصية) الرواية من حيث الإبداع والمناخ، فلا يستنبط كتبه من العدم بل من واقع أمريكا اللاتينية ولاسيما منطقة الكاريبي، حيث من خصائص الحياة اليومية أنها تنتهي بتعويد إنسان هذه المنطقة على كل أنواع الاستلاب الإنساني ، وكل أنواع المهازل التاريخية والاجتماعية، وكل أنواع الكوارث الطبيعية، لأن سوء الحظ الجيولوجي يبدو أيضاً رفيقاً من رفاق التخلف. فلا غرابة إذاً إلا أن تصدق هؤلاء الغجر الذين يطيرون والفتاة التي تأكل الحصى، والرجل الذي يغادر الحياة ثم يعود إليها، والدم الذي ينزف من الابن ويصل إلى كل البيوت، قاطعاً على نفسه ألا يوسخ المنضدة والبساط، والأخت التي تحب أخاها وتتزوجه، إنها الحكايات التي لا يشك أحد من القراء في وقوعها فعلاً من فرط الافتتان بهذا الروائي الكبير، الذي حول قرية صغيرة بعيدة تعيش عزلة قاتلة مفتوحة على أجمل النصوص التي كتبت في التاريخ الحديث. سأله أحد النقاد عن لجوئه إلى الأجواء السريالية في أعماله، فأجاب: بأن السريالية تتمشى في شوارع أمريكا اللاتينية، ولا داعي لاستحضارها لأن الواقع أكثر خيالاً منها. لقد تمكن من البقاء على قيد الحياة –قبل الرحيل- بفضل الكتابة كما قال: (مهنتي الحقيقية هي مهنة ساحر، أحاول القيام ببعض الحيل التي أضطر إلى أن ألجأ إليها. اهتمامي منذ أن كنت طفلاً منصب على أن يحبني الناس. فهل نجحت في ذلك رواياتي؟ سيسعدني الأمر). ولكنه الرحيل الذي لا مفر منه.. وبرحيله يكون المشهد الإبداعي الأدبي العالمي، قد فقد روائياً كبيراً وعبقرياً عظيماً، وخلف رحيله حزناً عميقاً في نفوس محبيه وأصدقائه، وقد رثاه الرئيس الكولومبي (خوان مانويل سانتوس) قائلاً: (إن العظماء لا يموتون أبداً). أما الرئيس المكسيكي (إنريكي بينيا نييتو) فقد وصفه بأنه: (واحد من أعظم الكتاب في عصرنا، مبرزاً أنه عبر أعماله قدم للعالم الواقعية السحرية من أمريكا اللاتينية. فقد ولد في كولومبيا وجعل من المكسيك على مدى عقود منزله، وبالتالي فقد قام بإثراء حياتنا الوطنية، ليرقد بسلام). روائي كبير أطل من أمريكا اللاتينية لينشر مجموعة من صورها الواضحة والغامضة في العالم كله.