×
محافظة المنطقة الشرقية

صحيفة الشرق – العدد 631 – نسخة الدمام

صورة الخبر

ربما يكون فرانز فانون أول من درس ظاهرة المقاومة المسلحة وسعى إلى فهمها وعقلنتها ووضعها في سياقها التاريخي، كردٍ اضطراري من المستعمَر على المستعمِر. لكن المقاومة تغيرت كثيراً منذ الخمسينات. وهذا زمن يتفق فيه كثر على أن الكلمات قد غيرت معانيها وبات يُقصد بها غير مضمونها اللغوي أو الدلالي المعتاد. مصطلحات مثل «الشعب» و «الجماهير» و «الدولة» و «الإرهاب»، باتت تشهد صراعات ضارية على معانيها ودلالاتها. و «الشعب» الذي اعتبر البلاشفة ذات يوم أنه في حاجة اليهم ليدرك مصلحته وأنهم «الطليعة الثورية» التي تفتح الــطريق أمام الجـــــماهير لتتولى إقامة سلطتها من دون أن ينكروا أنهم أقلية قليلة العدد فيها، صار اليوم شيئاً آخر. ووقع فانون ضحية الاختزال والتبسيط الشديدين كداعٍ إلى عنف أهوج وأهملت دراسته الأجواء النفسية التي تدفع أبناء البلاد الخاضعة للاستعمار إلى التمرد والمقاومة بعدما يُجرد من ثقافته وهويته وإنسانيته. وتحولت المقاومة من مسألة تعني تلك العلاقة التناحرية بين السكان الأصليين والمستوطن الآتي من بعيد إلى صراع داخلي بين جماعات ذات انتماءات طائفية وجهوية متباينة. يذكّر وجه الحرب الأهلية الذي تضعه المقاومة بما بيّنه حازم صاغيّة في كتابه «هجاء السلاح» حيث استعرض حالات انقلاب مقاومة الاحتلال إلى احتراب داخلي، بل حمل كل حركة مقاومة لبذرة حرب أهلية بعضها لا ينتظر انسحاب المحتل كي ينفجر. بيد أن لدينا من الشواهد على تجاوز تلك المرحلة وبلوغ المقاومات، في رعاية «محور الممانعة»، درجة الحرب الأهلية السافرة التي لا تنتظر تبريراً أو مسوغاً لمواجهة المجتمع الذي تدعي حمايته. لدينا في المجال هذا نموذجان: لبناني وسوري. يمثل الأول «حزب الله» الذي اختار الحرب على التكفيريين مهمةً ذات أولوية تتقدم ما عداها. فهؤلاء الذين نبتوا كما تنبت الأعشاب السامة لا عمل لهم غير قتل الأبرياء والاعتداء على المقامات المقدسة مدفوعين من أجهزة الاستخبارات المعادية للمقاومة والتي تلتقي في نهاية المطاف مع إسرائيل على هدف ضرب الحزب وجمهوره. غني عن البيان أن مفهوم «حزب الله» للمقاومة والتحرر الوطني متأخر كثيراً عن ذلك الذي درسه فانون وسعى إلى تطبيقه أثناء نضاله في جبهة التحرير الوطني الجزائري. فالحزب لا يرى أفقاً أعرض من «الحفاظ على النوع» ولا مهمة أسمى. عليه، يجري تقديس الجماعة وسلاحها وقوتها ورموزها. التحرر هنا مرادف لأقصى درجات المحافظة الاجتماعية والانغلاق. العلاقة مع الآخر أداتية انتهازية، على ما دلت تجربة التفاهم مع التيار الوطني الحر. تغير مهمة المقاومة ترافق مع تغير معنى الكلمة الدالة عليها. مواجهة الإرهاب التكفيري، المعادل الجديد للاحتلال الأجنبي، لا تعني عند تفكيك شيفرتها سوى الدعوة إلى الصدام مع الطائفة السنّية. من دون لف أو دوران ومن دون تورية أو استعارة مجازية. النموذج السوري تمثله الجماعة التي تطلق على نفسها اسم «المقاومة الوطنية السورية» ويقودها المدعو ميراج أورال أو علي الكيالي. وهذا من بقايا المجموعات اليسارية المتطرفة التي نشطت في تركيا في السبعينات وعاشت سلسلة طويلة من الانشقاقات التروتسكية والماوية إلى أن انتهى بعضها بالارتماء في أحضان الأجهزة السورية. وأورال/ الكيالي، الذي يصر على رفع صور تشي غيفارا عند ظهوره مع أتباعه الذين يحمل بعضهم الإعلام الحمراء بنجمتها الخماسية، متهم بالمشاركة في مجزرتي البيضا وبانياس في أيار (مايو) الماضي. وتداول ناشطون مقاطع فيديو يحض فيها المسلحين التابعين له على التصدي لغزو الإرهابيين لقرى الساحل أثناء الهجوم الذي شنته المعارضة السورية على ريف اللاذقية الشمالي قبل أسابيع. وفيما يناصب «حزب الله» التكفيريين العداء، ترى «المقاومة السورية» بلسان خطيبها وقائدها على الكيالي أن العدو الأول هم «الأعراب الذين يغزون بلادنا منذ 1400 سنة»، في استعادة صريحة لتاريخ الفتوحات العربية التي أحيت «المقاومة» النزاع حول تفسيرها. لكن، لا يحتاج المستمع إلى ذكاء لمّاح لإدراك المغزى الطائفي لكلام الكيالي. مرة ثانية، لا تصدر المقاومة إلا عن خوف الجماعات من الفناء على أيدي عدو يأتي من خارجها. بكلمات ثانية، اختفى في المقاومات السائدة في بلادنا كل مضمون تحرري وكل رغبة في الانعتاق من الاستلاب الذي فرضه الاحتلال الخارجي، على العكس من الصورة التي حاول فانون رسمها. ولم يبق من اللوحة الأصلية غير اللجوء إلى العنف والتهديد به. لكنه لجوء اختياري وليس اضطرارياً هذه المرة. ومقابل «الشعب» الذي دعاه فانون إلى نزع اقنعته البيضاء عن جلده الأسود، جاء مَن يقدمون الولاء للاحتلال الداخلي ويبررون جرائمه.