مجتمعنا مثل أي مجتمع على مرّ العصور لم يدّع قداسة، ولم يظهر أهله محصنين من الخطأ، أو حتى من الاقتراب منه، لكنه حتماً منغلق في بداياته الأولى، ولم يعرف العقل سبيلاً للانفتاح مع العالم الآخر، أو التوقف عنده، ومع كل ذلك كان هناك تجاوزات جريئة من البعض نحو هذا الانفتاح -من وجهة نظرهم-، بينما ظلت من وجهة نظر المجتمع المتدين خطأً وصل إلى حدّ العقوبة، وسوء المنقلب في النظرة والتعبير عن هؤلاء الأشخاص، ومع ذلك لم يتوقف الخطأ، ولم ينفتح المجتمع تجاه مرتكبيه. «الشلة» سكروا في السطح ونزل أحدهم إلى «بطن الحوي» و«تهاوش» مع راعي البيت وحضر أخوياه «يفكونهم»! وفي أيامنا الخوالي كان الناس ولا زالوا يمقتون الخمر وشاربها، بل إنها من العادات السيئة التي تجعلهم ينفرون من صاحبها وينعتونه بشتى الأوصاف، ولكن الاختلاف اليوم أن المجتمع -إلى حدٍ ما- بات أكثر تفهماً لشارب المسكر ليس في حكمه الشرعي المتفق عليه، وإنما في اعتبار ذلك حرية شخصية إذا لم تتجاوز غيره بالإساءة أو ارتكاب الخطأ، ولكن مثل هذه النظرة يقابلها رفض وتشدد من الغالبية على اعتبار أن المنكر يبقى كذلك مهما كانت المبررات. موضوعنا هذا الأسبوع يوثّق حال المجتمع مع المسكرات، وتحديداً قراءة الواقع الاجتماعي في سلوكه وردات فعله ومواقفه من شارب الخمر، وكيف كان المراهقون يعيشون مغامراتهم، وجلساتهم الخاصة، و"المطاوعة" يقبضون عليهم، ثم يُجلدون على الملأ. مجتمع قاسٍ على شارب المسكر: «سمرمدي» و«داشر كلاب» و«سربوت» ولا تزوجونه ولا يتزوج منكم إمام وجاره سكران! وحفل لنا التاريخ منذ بدء ظهور الإسلام بمن ابتلوا بمعاقرة الخمر وشربها، ولعل قصة الإمام "أبو حنيفة النعمان" مع جاره خير شاهد على ذلك، فقد كان للإمام أبي حنيفة بالكوفة في العراق جار (إسكاف) يعمل كل نهاره، فإذا جنّ الليل رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دبّ فيه السُكر أنشد: أضاعوني، وأيُّ فتًى أضاعوا ليومِ كريهةٍ وسدَادِ ثَغْرِ ولا يزال يشرب الخمر ويُردّد هذا البيت إلى أن يغلبه السكر وينام، وكان الإمام أبو حنيفة النعمان يُصلي الليل كله ويدخل عليه صوت جاره وإنشاده، فَفَقد صوته في بعض الليالي فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس، فصلّى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى حتى دخل على الأمير فاحتفى به الأميرُ وأجلَسه مكانه وقال: ما حاجةُ الإمام؟؛ فقال: لي جارٌ (إسكافٌ) أخذه العَسَسُ منذ ثلاثة أيامٍ فتأمرُ أن يُخلوا سبيله قال الأمير: أخلوا سبيله وسبيل من حُبس معه تلك الليلة إكراماً للإمام، فلمّا وصلا إلى الدار قال له أبو حنيفة: أترانا أضعناك؟ قال: لا والله بل حَفِظتَ ورَعيتَ فجزاكَ الله خيراً عن صحبة الجوارِ ورِعايتهِ ولن أشرب بعد اليوم خمراً، فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه. «المطاوعة» يتصيّدون ل «السكارى» في «عواير الحارة» ويشمون الرائحة عن بُعد.. ويعدون محضر «الاستنكاه» فقير وسكران! قبل قرن من الزمان في حياة الأجداد كانت معيشة الناس في المدن والقرى في البيوت الطينية وكان الناس يعانون من شظف العيش، وقلّة من الناس عرفوا بيسار العيش، ولكن الغالبية العظمى هم من الطبقة الكادحة التي يضيع يومها في البحث عن رزقها وقوت يومها، ومن الملاحظ بأن جل من كان يقع في شرب الخمر هم من الفقراء الذين يجدون في شربه هروباً من الواقع المرير، فيستعيضون بها كحل مؤقت للهروب من معاناتهم، على أن الملاحظ أن الشباب، خاصة في مقتبل العمر هم أكثر الناس وقوعاً في ذلك لقلة خبرتهم وميولهم لتقليد الكبار ليحسوا برجولتهم ويثبتوها من خلال سد النقص الحاصل في شخصيتهم، وقد يكون من الأسباب المشاكل الأسرية أو فوات الاقتران بمن أحبه قلبه من بنات الجيران أو الحي وغيرها. «عاقل الحارة» شرب عصير عنب مخمّر واخترش عليهم و«عطر الخرش» يباع في البقالة ومن يشتريه محل شك دائم أنواع المسكر لم يكن الناس فيما مضى يعرفون المشروبات الروحية (المسكرات) المنتشرة في العالم الآن، بل كان ما يسكرهم محلي الصنع من تخمير بعض أنواع الأطعمة أو تقطيرها، وبعد فترة من الزمن ورد نوع من العطور يباع في زجاجات مدورة وفي زجاجته نتوءات، واكتشف بأن شربه يسكّر الشخص فأطلقوا عليه اسم (الخرش)، وهو في الأساس نوع من (الكولونيا) يتخذ من أجل التعطر به، ولرخص ثمنه وتوفره لدى البائعين (طاح) مجموعة من الناس ممن يتعاطى المسكرات في شرائه وشربه واتخذه بديلاً ل(الخمر) و(العرق)، ولم يعلم كثير منهم بأنه من أضر المشروبات على جسد متعاطيه، حيث يؤدي إلى تلف الكبد، وكم كان عدد ممن أدمن شربه بشراهة صار ضحية المرض والهزال، والبعض الآخر منهم أدى به الحال إلى الوفاة سريعاً، وقد كان كثير من الناس ذوي السمعة الطيبة يتحاشون شراءه من بلدتهم حتى لا يظن بهم الظن السيئ بأنهم يستعملونه من أجل (السُكر)؛ فقد كان من يشتري منه على الدوام وبكميات كبيرة محل شك بأنه يشربه ولا يتعطر به وقد كانوا في ظنهم مصيبين!. "سكّير نكّير" و"سمرمدي"! إذا ثبت لدى الناس فيما مضى أن فلان يتعاطى (المسكرات والخمور)؛ فإنه كما يقولون (يطيح من العين)، بل يوصف بأقبح الألقاب؛ فعند ورود ذكره مثلاً يقال اترك عنك (فلان) فإنه (سكّير..نكّير) أو (داشر كلاب) أو (سمرمدي) أو (سربوت)، وقد يقال (فلان) لا يصحو من سكره وماشابه ذلك من الألفاظ المقززة التي تجعل الناس تنفر منه ومن مجالسته، وحتى مجرد محادثته، فالمجتمع لا يرحم؛ فكما أن شارب الخمر لم يرحم نفسه من الوقوع ضحية لها؛ فإن الناس كذلك لا ترحمه فيتجنب الناس مجالسته أو مخالطته حتى لا تتلطخ سمعة من يجالسه ويخالطه، ويزداد أمر المدمن سوءاً بأن لا يجد من يقبل به زوجاً لابنته أو أخته فيكون منبوذاً في مجتمعه، بل في المجتمع ككل، وهذا يبين مدى نفور الناس وحتى الآن من مرتكب هذه العادة السيئة، وقد تستمر هذه الأوصاف مع شارب الخمر لسنين عدة حتى يصلح أمره ويستقيم ويقلع عنها، وحتى لو أقلع فإن بعض الناس لا يمكن أن ينسى إلاّ بعد مرور سنين على تركه لذلك الفعل المشين والتوبة والاستقامة والصلاح. أماكن تعاطي المسكر عندما يهم بعض من يريد أن يغيب عن عالم الوعي بتناول الخمر؛ فإنه يختار مكاناً قصياً بعيداً عن أعين الناس فتراهم يخرجون مثلاً ليلاً إلى أحد الأودية القريبة من القرية، أو طرف نخيلها، ويعدون لهم مجلساً، ومن ثم يخرجون ما جاءوا به من (الخمر) والتي يطلق بعضهم عليها (العرق)، ويكون عادة ملفوفاً في (خيشة) أو (زبيل)، ويحضرون معهم (قالب) ثلج يشترونه من مصانع الثلج البدائية قديماً؛ فيتولى أحدهم تكسيره إلى قطع صغيرة بألة حادة كسكين أو بقطعة حجر نظيفة، ومن ثم يبدأون بتناول الشراب بعد إضافة الثلج ويمضون أكثر الليل في شربهم بسعادة وقتية تنتهي بانتهاء مفعول السكر في رؤوسهم، حيث يعودون أدراجهم إلى منازلهم قبل الفجر بقليل وهم يترنحون في مشيتهم وتتعالى ضحكاتهم إذا لم يفك مفعول ما شربوه، ومن الأماكن التي يحلو للبعض شرب الخمر فيها البيوت المهجورة الخربة، أو منزل أحد الشباب الذي يعيش عازباً ويطلق عليه عادة "أبو هاجوس"، حيث تحلو عنده جلسات السمر في خفية. شبهة الترويج أما عن طريقة الحصول على (الخمر) فإنها متعددة؛ فمنها أن يختص أحد المدمنين على شربه في صنعه في بيته خفية أو في مزرعته بعيداً عن أعين الناس؛ فيتولى تقطيره بطبخ بعضاً من أنواع الفاكهة المعروفة لديهم، ومن ثم وضعها في قوارير أو (جراكل) ويسمى هذا (عرق)، والغالب أن يضع البعض أنواعاً من الفاكهة ويتركها في (جركل) لعدة أيام مدفونة حتى تتخمر، ومن ثم يخرجها ويبيعها على من يرغبها فيبدأ بعملية (الترويج) بحذر شديد، حيث يخفيها في ثيابه ويتلثم ويكثر من الالتفات خلال مشيه فهو موضع شبهة، ويبيعها غالباً في الليل؛ فتراه يتسلل وكأنه سارق، ويعطيها من يرغب بشرائها ويقبض الثمن ويفر هارباً حتى لا يكتشف أمره. محضر (استنكاه)! كان من يمسكه العسس قديماً أو الشرطة بعد توحيد البلاد وهو متأخر ليلاً موضع شك وريبة، خاصة إذا لم يكن من الناس الذين يبدو عليهم الوقار أو لهم مكانتهم الاجتماعية في البلد؛ فيبدأ التساؤل عن خروجه في هذا الوقت بالذات فيتم التحقيق معه، وقد يُطلق سراحه إذا كان في حالة اضطرار للخروج، أما إذا بدت عليه علامات السُكر فانه يتم الذهاب به إلى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلدة، ويطرق عليه الباب ويطلبون منه شم رائحة فم المقبوض عليه؛ فإن شم رائحة الخمر فإنه يقول لهم إنه شارب خمر فيودع السجن ويتم من الغد إعداد محضر يسمى محضر (استنكاه)، ويتم التوقيع عليه من قبل رئيس الهيئة كعضو، ومن ثم يتم تطبيق الحد عليه حيث يجلد أمام الملأ ثمانين جلدة. إقامة الحد غالباً ما يكون تنفيذ حكم إقامة الحد على شارب الخمر وهو الجلد ثمانين جلدة يوم الجمعة بعد أداء صلاة الجمعة في ساحة جامع البلدة، حيث يجتمع الناس حول من يراد أن ينفذ الحكم فيه بحضور رجال الشرطة أو رجال أمير البلدة وبعض رجال الحسبة، ويتم جلده على قفاه بعد أن يتلو أحد المنفذين قرار جلده بحكم القاضي، حيث ينال العصا من (الخيزران) أسواطاً لاذعة على جسده يتلوى من حرها ومن حر الفضيحة، وقد يخرج أحدهم خلال جلده أصوات التأوه من شدة الجلد وقد يقول عبارة (التوبة..التوبة) دون أن تثني منفذ الحكم من إتمام أسواط الجلد، بينما الناس يحمدون الله على فضله ويسألونه السلامة والستر، وبعد الجلد يطلق سراح شارب الخمر بعد أخذ التعهد عليه ألا يعود لمثلها، وكم يكون هذا المنظر الذي أوجبه الشارع لحكمة رادعاً لكثيرين، وغالباً ما يتوب من تم جلده ويقلع عن هذه المعصية ونادراً ما يتكرر إقامة الحد على من جلد مرة أخرى، حيث يكون مصيره الإقلاع والتوبة. جلسة سمر انتهت بفضيحة على الرغم من سعي من يتعاطى الخمر إلى أن يتم ذلك في غاية السرية، إلاّ أن السُكر إذا لعب في الرؤوس فان الإنسان ينسى كل ذلك فيسهل انكشاف الأمر، ومن المواقف الطريفة التي تؤيد ذلك هو ما حصل لأربعة شبان في مقتبل العمر استضافهم رابعهم في بيته في مغامرة منه بعد أن يئسوا من إيجاد مكان يؤيهم لجلسة الشراب، حيث راقب هذا الشاب والده حتى نام هو ووالدته وإخوته في أسفل الدار وبعد منتصف الليل فتح الباب لأصحابه الذين جلبوا معهم الشراب بخفية وثلج وصعدوا إلى سطح المنزل مع اعتدال جو الصيف، ومن ثم أخذوا في الشرب والتسلية ولما انقضت ساعات ودب السكر فيهم نزل أحدهم إلى أسفل الدار؛ فسمع الأب صوته فخرج ومعه السراج ليستكشف الأمر، ولما جاء في وسط الدار تفاجأ بهذا الشاب يسير في المنزل فقرب السراج إلى وجهه وتعرّف عليه؛ فأخذ بتلاليبه وجره صائحاً به: مالذي جاء بك في داري في آخر الليل وكيف دخلت؟ وتعالى صوته، ولما سمع أصحابه كلامهم لم يهربوا خوفاً أو يندسوا خلف سترة السطح، وإنما نزلوا "عيني عينك" والسكر يلعب برؤوسهم، وقالوا:"يا بو فلان وشفيك على الرجال.. رح لبيتك ونم"، فرد عليهم:"يا دشير الكلاب هذا بيتي أنتم وش جايبكم تسكرون عندي وتنكرون"، وفجأة نزل ابنه "سكران طينة" وعرف السبب، وطردهم جميعاً من بيته، وعلت الأصوات وعلم الجيران وصارت فضيحتهم كما يقولون ب(جلاجل)، وانفضح أمر هؤلاء الشباب وساءت سمعتهم بين أهل الحي، وبقيت سنين حتى كبروا وتابوا وأقلعوا عما وقعوا فيه، ولا يزالون يتذكرون هذا الموقف المحرج والمضحك رغم مرور عشرات السنين وهم يحمدون الله على الهداية والصلاح. قصة بائع العنب ونختم بقصة طريفة لبائع عنب بإحدى القرى وهو شيخ ذو تقوى وصلاح أسكره العنب دون أن يدري، حيث كان لدى هذا الشيخ مزرعة بها كروم عنب وكان في كل يوم يملأ وعاء حديديا يسمى (سطل) من العنب وجمعها (سطول)، وكان يجلب ما معه من هذه السطول المملوء بالعنب إلى دكانه في السوق ليبيعها فيه، وبعد مرور أيام توفر العنب بكثرة في البلدة فصار العنب كاسداً حيث يمر عليه يومان إلى خمسة أيام لا يبيع إلاّ سطلاً أو اثنين، وفي يوم من الأيام ونظراً لشدة حر الصيف فقد بدا على العنب الذبول وتجمع في أسفل كل (سطل) من عصير هذا العنب قليل ونظراً لمرور عدة أيام فقد تخمر وأصبح خمراً وهو لا يدري، ولما شاهد عصير العنب لم تطعه نفسه أن يتخلص من هذا العنب وإكراماً للنعمة فقد جمع عصير العنب من هذه السطول وشربه ولما جلس برهة وأدخل سطول العنب إلى دكانه ذهب إلى بيته وفي الطريق لعب هذا الشراب في رأسه وأسكره دون أن يدري؛ فمر على أصحابه في السوق وهم جلوس فسلم عليهم وهذى بكلام غير لائق وبدأ يخلط ويهذي في كلامه كأنه (سكران)، وصدرت منه عبارات مضحكة فغرقوا في الضحك منها وسط استغرابهم فقد علموا بأنه لا يمكن أن يقول أحد هذا الكلام إلاّ وهو مفارق للعقل (سكران)، ولولا معرفتهم بصلاحه وورعه وتقواه لشكوا فيه بأن ممن يتعاطى المسكرات فتركهم ومضى إلى بيته ومن الغد لما سألوه عما قال أنكره؛ فاستوضحوا الأمر وعلموا بما فعل هذا الرجل بعصير العنب فزال عجبهم وعاهدهم على ألا يعود إلى ذلك وأن يتخلص من عصير العنب القديم على الفور.