×
محافظة المنطقة الشرقية

برنامج تنفيذي لتطوير التعليم العام قريبا

صورة الخبر

النسخة: الورقية - دولي مشهد الشارع اللبناني، الذي عادت إليه بعض الحيوية الاجتماعية، لا يعكس واقع حال الركود الذي صار سمة للوضع الاجتماعي العام. والأصوات المطلبية، التي علت منددة بالسياسات الاقتصادية، لم تجد أصداءها لدى فئات أوسع، هي بالتعريف، متضررة من هذه السياسات. لكأن الاحتجاج استثناء عابر، يعود ليثبت قاعدة الرضوخ المديد، الذي بات يتغذى من عناصر ديمومة أهلية، تنتجها كل كتلة على حدة، وتعيد شروط إنتاجها. إذاً، خرج بعض اللبنانيين وسط اصطفاف ناجز، مغاير لفرضية تعددهم، ووجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة كتل مكتملة القوام. لم يكن صوت الوحدة، أو التوحد في الهموم، كافياً لإلغاء صورة الانشقاق الافتراقي، الذي يقيم اللبنانيون، بحكم تداعياته، على خطوط تماس مرسومة بعناية ودراية. التدقيق في مادة الانشقاق، الذي بات واضحاً، يظهر أن قراءته وفق لائحة مفاهيم ماضية، أو بواسطة نظاراتها، باتت قاصرة عن الإحاطة به. والمقصود بذلك، أن القراءة الصافية لا تفي بالغرض، في معرض تناول «الظاهرة العكرة»، إذ لا يمكن الركون باطمئنان نظري، إلى الترسيمة الطبقية أو الوطنية أو القومية أو الدينية، لدى استعراض شؤون الكتل اللبنانية الحالية، أي لا يمكن اعتماد الأحادية التعليلية، في أي أمر من أمورها. هذا لا ينفي ضرورة البحث عن المصالح الاجتماعية والسياسية المضمرة داخل كل كتلة على حدة، لكنه يؤكد في المقابل ضرورة فهم تعرجات تعبير هذه المصالح عن نفسها، بنطق معلوم، وبكيفية محددة. هذا الفهم يتطلب بدوره متابعة مسيرة تشابك العناصر المختلفة داخل الاصطفافات الراهنة، حيث تتضافر المادة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، وحيث تتداخل كيفية رؤية الذات الجمعية المفردة، بالمقارنة مع كيفية رؤية الذوات الجمعية المفردة الأخرى. منطلق كل نظرة اليوم، هو الصفاء الطائفي، الذي صار مذهبياً على رغم نفي بعض أصحابه لهذه الصفة، وما يتبادر إلى النقاش هنا، هو سؤال: لماذا؟ وما النتائج؟ في «لماذا»، بات واضحاً أن بلورة الصفاء التكتلي لدى هذه الفئة أو تلك، اجتازت مسافة زمنية، ومسافات ميدانية ونظرية، أتاحها مضمون «البنية اللبنانية»، وتعريف تشكلها، ومعطيات «كتاب الكيان»، الذي ما زال مفتوحاً على إضافات أهلية متلاحقة. أما في النتائج، فالأبرز منها هذا التماهي بين أجزاء كل كتلة، بحيث يصعب تجسيد التناقض بين هرمها وقاعدتها، وبحيث يندر الكلام على وجود اعتراض سياسي حقيقي داخلها، يفضي إلى مراجعة الحسابات وتبديل السياسات. بل لعل من الأيسر الحديث عن قبول غالب، لدى الشرائح الواسعة من الكتلة المحددة، وعن رضى عام عن طريقة وجود الذات في مقابل وجود غيرها، هذا الرضى الذي يصدر عن أصحابه في صيغة تبرير شامل، لكل النظرية السياسية، ولكل الممارسة العملية. هذا الأمر، يعكس مصالح مادية ملموسة، فالانقياد الذي يرص صفوفه الكلام التعبوي العالي، لا ينهض على كلام فقط، بل على فوائد قد تكون فتاتاً، لكنها فوائد في نهاية المطاف. متابعة خط سير الفوائد المشار إليها، وكيفية تحصيلها، من المسائل التي تأخذ البحث إلى التاريخ، مثلما من شأنها أن تأخذه إلى الجغرافيا والديموغرافيا، أي إلى حديث التشكل المستدام للكتل اللبنانية، التي تستقر حيناً، وتضطرب أحوالها أحياناً، والتي تبيت على قلق الموقع فوق خريطة لبنان، وتستيقظ على وقع تبدلاته. إذاً، سؤال ما المسار الذي اجتازته كل كتلة، يصير سؤالاً راهناً، حتى لا تنسب أفعال كل جمع أهلي إلى خيال أصحابه، بعيداً من حقيقة واقعهم. طرح مسألة المسار الخاص، فيه حديث العناصر ذات الحضور الكثيف، وفيه معاينة محطاته الأبرز، وفيه استخراج المعاني الافتراقية المتضمنة، ومعها معاني المراكمة «الاندماجية» الداخلية، والصعوبات التي تعترض كل من هذه أو تلك، والضرورات التي ترجّح كفة السلبي من المسالك، أو الإيجابي منها. تأسيساً على ذلك، يمكن القول إن مقاربة فهم النظام الطائفي اللبناني، في نسخته الحالية، لا يمكن أن تكون ميسورة إلا من خلال مراقبة تطور تكون ووجود كتله، التي هي أساس النظام، وهو لسان حال خلاصات مساراتها المتقابلة، وضابط إيقاعها في التقائها، وإطار اجتماعها في افتراقها. لقد تبدلت الهرمية، أو التراتبية ضمن النظام اللبناني، حصل ذلك على أرض الواقع، على رغم أن الأمر ما زال ثابتاً في النصوص. هذا يؤسس للانطلاق للرؤى التي تنشد تغييراً داخلياً، لأنه يتيح لها الوقوف على حقيقة النظام الذي تريد معارضته، على طريق تغيير أدائه، وصولاً إلى احتمال تغييره. ما هو ظاهر حتى الآن، أن «الحزبية» اللبنانية غائبة عن سياق البحث هذا، وأن أسئلته غير مطروحة على جداول أفهامها. لا ينقذ التعميم هذه الحزبية، إذ لا يكفي القول إن النظام اللبناني نظام طائفي، وكفى. التعميم ينتج تعميماً آخر، على شاكلة «الشعب يريد»، لذلك فإن المطلوب هو الكلام المحدد عن النظام الحالي المحدد، ليصير متاحاً إعلان ماذا يريد الشعب، بدقة ووضوح، ومن دون إحالة تاريخية تجهيلية. لا بد من الاعتراف بأن وسائط البحث، الممثلة بأحزاب وتنظيمات وحركات سياسية، غير متوافرة حالياً. فما هو قائم من حزبيات موروثة، عاجز عن القيام بهذه المهمة. ولا بد من الجهر بأن الأدوات التحليلية والتفسيرية، لدى الناطقين باللهجات الاعتراضية، باتت صدئة، لذلك تأتي الاقتراحات معطلة سلفاً. لكن لا بديل من التأكيد أن الرحلة إلى النظرية المعارضة المغايرة طويلة، وأن السير في دروبها صعب... إنما «لا بد من صنعها ولو طال السفر».     * كاتب لبناني