عندما ظهرت نتائج انتخابات أول الأندية الأدبية صاح مثقفون بأن الفائزين متشدِّدون وأعداء للإبداع الأدبي وللديمقراطية، ولما ظهرت نتائج معاكسة بأندية أخرى صاح مثقفون آخرون بأن النتائج مزورة؛ فصاح قطاع «طفشان» بأن الساحة الثقافية غير مهيأة للانتخابات.. هذا القطاع الطفشان كان خجولاً خافتاً لكنه صدح بصوت جرئ مرتفع قبل نحو ثلاثة أسابيع عندما أطلق نائب وزير الثقافة والإعلام تصريحاً صادماً حول تشكيل مجالس الأندية الأدبية عن طريق التعيين، واُعتبر بمثابة مقدمة لإلغاء الانتخابات، لكن قبل أيام صدر القول الفصل لوزير الثقافة والإعلام بأن انتخابات الأندية الأدبية ستبقى وسيقتصر دور الوزارة على الإشراف.. أثار التصريح الأول موجة سجال جدلي بالساحة الثقافية حول التجربة الانتخابية للأندية الأدبية بين معارض للتعيين ومؤيد ومتحفظ، كما أطلق للعنان آراء جديدة لتجربة الأندية عمومًا. على سبيل المثال، الدكتور سليمان الضحيان سماها «خرافة» الانتخابات بالأندية الأدبية، فيما رأى الكاتب خالد الخضري حلّ الأندية الأدبية والتخلص منها فوراً وتحويلها إلى مراكز ثقافية مع دمج كافة القطاعات الثقافية. المؤيدون للتعيين يرون أن التجاوزات الحادة لمبادئ الديمقراطية، والخلافات المخجلة بين المثقفين التي أنتجتها الانتخابات كمقاطعة العديد منهم لأنديتهم التي كانوا روادها وابتعاد المبدعين، عطلت عمل بعض الأندية وأضعفت فعالية بعضها الآخر، بينما المسألة برمتها لا تستحق عناء هذا التنازع الذي وصل لأروقة المحاكم، وإغلاق أندية بالشمع الأحمر! كما أنه في بداية الانتخابات قالت فئة إيديولوجية متشدّدة: إنها ستمنع الحداثيين من المشاركة بالنادي مما ينسف الأهداف الأساسية للمؤسسة الأدبية القائمة على الإبداع والتنوع، بينما طريقة التعيين السابقة كانت تراعي حقوق التيارات المختلفة وتوازن بينها بطريقة ودية. هؤلاء المثقفون يرون خطر ديمقراطية انتخابات تأتي بفئة متسلّطة لا تؤمن بتعددية الأصوات ولا بآلية الانتخابات التي فازت بها! المعارضون للتعيين يرون أن البدايات لا بد أن تتعرض لإشكالات تحدث في أية مؤسسة وأي مجتمع، ولا بد أن يعتريها النقص والثغرات، وأن التجربة الانتخابية ستقوِّم نفسها عبر الممارسة وليس عبر إلغاء الانتخابات، حيث سيتعوُّد الناخبون على الاختلاف والتعددية، وفي طريقتهم للاختيار، وتتحسُّن الأنظمة بسد الثغرات؛ فالسعودية عموماً تتجه تدريجياً نحو الانفتاح وقبول التعددية عبر الانتخابات بالعديد من المؤسسات... لكن إذا كانت الإشكالات تحدث بأي مؤسسة، فلماذا حدثت إشكالات استثنائية خاصة الاتهامات بالتزوير في انتخابات الأندية الأدبية بينما لم تحدث إشكالات بهذه الضخامة بالمؤسسات التي اعتمدت الانتخابات كالمجالس البلدية والغرف التجارية، وحتى المؤسسات الإعلامية والثقافية (هيئة الصحفيين، جمعية كتاب الرأي..). هذا يتطلب تحليل مظاهر المشكلة التي وصلت ذروتها العام الماضي باستقالة الرئيس السابق للأندية الأدبية حسين بافقيه، وقبله مسؤولون آخرون. يمكن إجمال ما أفرزته التجارب الانتخابية بمظهرين شكلاً واقعاً ثقافياً جديداً. الأول هو ظهور انقسامات حادة وخلافات بين المثقفين، لم تتمكن وكالة الوزارة للشؤون الثقافية من إدارتها كمشارك بالحل، بل إنها صارت مشارك بالمشكلة في مواجهة مع بعض المثقفين وصارت طرفًا بالنزاع، ورُفعت شكاوى عليها للمحاكم! ثانيًّا، أظهرت نتائج الانتخابات في بعض الأندية أغلبية غير معنية بالأدب والثقافة بل بأجندة إيديولوجية وتحزبات فئوية، أو فئة أكاديمية بعيدة عن الإبداع الأدبي والثقافي. القول: إن الساحة الثقافية غير مهيأة أو غير ناضجة للاستحقاق الانتخابي لأسباب ثقافية واجتماعية هو كلام مُرسَل يقول شيئاً مهماً ولا يقول أشياء أهم.. كلام يوحي كأنها حالة مستعصية، لكن تشخيصها يؤكد قابليتها للمعالجة. هذه الحالة يمكن وصف مظاهرها بالتالي: صعوبة قبول الآخر المختلف أو التعددية، شيوع فهم دكتاتوري للديمقراطية بأنها تمنح الغالبية تقرير كل شيء ومنها التحكم بحقوق الآخر كاستبعاد الأقلية من النادي، اعتماد التصويت على الاسم والمعرفة الشخصية أو العلاقات الشللية والفئوية الإيديولوجية مقابل عدم وجود خطة عمل واضحة للمرشحين لتحسين أداء النادي، وفي أحسن الحالات اختيار المرشح حسب سمعته الأدبية على حساب كفاءته المهنية في إدارة النادي.. وأخيراً والأكثر أهمية شكوك في نزاهة الانتخابات! إذا نظرنا موضوعياً بشكل شامل للانتخابات في الأندية الأدبية بعموم المملكة مع تقدير أنها التجربة الأولى فإنها ليست فاشلة بالمجمل. نعم، ثمة أزمات حادة وقعت لكنها قابلة للتجاوز ولا تدعونا للنكوص.. مثلاً وجود ثغرات في طريقة التصويت والتي أحدثت أكبر البلبلة وهي التصويت الإلكتروني «المشتبه فيه» فإن حلها سهل، إذا خففنا من أجواء المناكفة بين بعض المثقفين ووكالة الوزارة للشؤون الثقافية. الحل أصبح في الطريق عبر اللائحة الجديدة للأندية التي ستصدر قريباً حيث أوكلت مسألة الاختيار بين التصويت الورقي والالكتروني للأندية الأدبية نفسها عبر جمعياتها العمومية. كما حددت اللائحة مرجعية واضحة للخلافات في حال حصولها داخل النادي، أو بين النادي ووكالة الوزارة للشؤون الثقافية، عبر لجنة تتشكل من قبل وزير الثقافة والإعلام تتكون من خمسة أشخاص، ثلاثة منهم من منسقي الجمعيات العمومية، وتعمل بآلية التصويت بحال اختلافهم، ويكون قرار الأغلبية نافذًا. أما الفهم الفئوي فهذا ستفرزه - وبدأت تفرزه- التجربة الأولى بأن الأنفع للنادي وللمثقفين هم أصحاب الكفاءة المهنية وليست الإيديولوجيا ولا الشهرة الأدبية أو الأكاديمية.. لا يزال السؤال قائمًا: لماذا تحدث هذه الأزمة الانتخابية الحادة عند المثقفين دون غيرهم؟ ربما الإجابة هي بأن المثقفين والأدباء والنقاد حرفتهم الكلمة المتمردة والنقد المستمر.. فعلينا أن نتعود على قسوة الكلمة والقسوة المضادة في مسيرة الديمقراطية بالساحة الثقافية.. من المفيد لرحابة الصدر أن نأخذ دائماً بالاعتبار طبيعة المثقفين «النزقة» الصعبة القياد حتى للأنظمة العادلة والنزيهة.. عدا عن ذلك فإن البدايات غالباً ما تواجه تحديات وعثرات، فالحل ليس بإلغاء الانتخابات ولا التوقف عن صعود درجة من درجات الديمقراطية أو العودة للوراء خشية الانزلاق من الدرج، بل صعود درجة أخرى للهواء الطلق شريطة وجود لوائح وأنظمة وجهة حماية من الانزلاقات الخطرة والتجاوزات التي تفهم بأن الفائز بالأغلبية يتحكم دكتاتورياً بالقرارات وأن الخاسر لا حقوق له بالنادي وعليه الابتعاد! هنا يجب الدفاع عن بيئة الانتخاب بنفس درجة الدفاع عن عملية الانتخاب، ولا نكتفي بالقول إن الانتخابات لا تصلح للمثقفين السعوديين وكأنهم جاءوا من كوكب آخر!