×
محافظة المدينة المنورة

أمانة المدينة تضبط 222 موقعاً مخالفاً للاشتراطات الصحية

صورة الخبر

لعل من أكثر الأمور السينمائية حرفية هو أن يصنع فيلم مستوحي من قصيدة... المثير هنا هو أن القصيدة وإن حكت قصة إلا أنها تكون على شكل لمحات ولكن لم يحدث من قبل حملت القصيدة خصائص الرواية أو القصة كونها غير مكتملة العناصر التوصيفية للشخصيات والأماكن ناهيك عن الأبعاد النفسية والصراعات الإنسانية التي عادة ما تكون واضحة جداً في الرواية من خلال الوصف الهيكلي والنفسي للشخصيات والأماكن. من هنا تبرز الحرفة العالية التي يظهرها كل من كاتب السيناريو والمخرج في قدرتهما على الدخول إلى العوالم المبهمة التي قد تكون أيضاً معقدة لأجواء القصيدة والنوازع المختلفة التي تتضمنها الأرواح المتنقلة ما بين العبارات والصور. لم أشاهد الفيلم السويدي «أغاني من الطابق الثاني» والمبني على قصيدة «تعثر بين نجمين» للشاعر الإسباني قيصر باييخو، ولكنني قرأت قصائد الشاعر وأبحرت في سيرة حياته بقدر ما أتيح لي في بحثي عنه، ولكنني أجزم مما قرأته في القصيدة من أجواء قاتمة ومعقدة أن الفيلم تم كتابته وتنفيذه بصعوبة بالغة؛ فتلك الأجواء المريبة للقصيدة تنبعث من حزن دفين وعوالم قاتمة وهي عوالم تستلزم الكثير من الحرفة الإخراجية وفهم كبير لفلسفة الشاعر وغموض شخصياته. ما يثير الدهشة هنا هو القدرة على ترجمة فلسفة عميقة تتضمنها قصيدة من خلال الشخصيات التي تتصرف أو تتحدث بما يمنح المشاهد حرية الاختيار في فهم تلك الشخصيات والبحث في خباياها... إنها لحظات الصمت التي يهديها المخرج المبدع للمشاهدين كي يفكروا ملياً في أنفسهم وفي العالم حولهم... مما يثير لديهم الأسئلة باستمرار.. إنها المتعة بطريقة أخرى.. الطريقة التي يختارها كل من كاتب القصيدة المبدع المعقد ومن المخرج القادر على فك رموز وطلاسم عبارات وصور في قصيدة تحكي إشكالية الإنسان مع حدوده الطبيعية. ما يميز قصيدة التعثر بين نجمين هو أن الشاعر وضع وصفاً مختصراً لعدد من الشخصيات وأجزم أن ما جذب المخرج لهذه القصيدة هو عبقرية الشاعر في منح تفاصيل عديدة حول كل شخصية داخل عبارة واحدة هي العبارة الذهبية لأنها ليست فقط نافذة على الشخصية ولكنها أيضاً نافذة تطل على عوالمها الخاصة بها وكأنه يقدم للمخرج القصة كاملة؛ ففي الأبيات التالية من القصيدة نتعرف على بعض من الشخصيات: «محبوبون أوائك من يجلسون محبوب هذا الغريب الذي يرافق زوجته الجار الذي يرتدي الأكمام الطويلة وله عنق وعينان محبوب من يشتكي من حشرات الفراش ويسير تحت المطر مرتديا حذاءً مهترئاً» إن بساطة الشخصيات التي تم وصفها بمرح في القصيدة نستغربه من شاعر اعتاد على الحديث عن الموت كثيراً في قصائده إلا أن هذا المرح يتيح للمخرج فرصة الخروج من قتامة الألم الإنساني وتطعيم الحوار بشيء من الكوميديا السوداء. يثبت لنا هذا الفيلم أن السينما قادرة على أن تدخل إلى أقصى مجاهل النفس الإنسانية وتبحث فيها لتمنحنا دقائق ثمينة في حياتنا نعود من خلالها إلى عمق ذواتنا لنتطهر من خلال رؤية مجردة وعميقة للأفراد الذين يشاركونا صنع الحياة. (*) شاعرة وإعلامية.