أمضت نخبة من محبي الطرب العربي الأصيل «ليلة موسيقية إرهابية» قبل أيام في دار الأوبرا المصرية تحت رعاية جامعة الدول العربية! شارك في الليلة مطرب المقام العراقي النجم حسين الأعظمي بمصاحبة «فرقة الجالغي البغدادي»، و«جوق» شباب فاس للموسيقى الأندلسية المغربية بقيادة محمد العثماني، ومطربات دار الأوبرا المصرية ريهام عبدالكريم التي غنت «أروح لمين» لأم كلثوم، ومي فاروق في أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم أيضاً، وأجفان التي غنت «هان الود» لمحمد عبدالوهاب، ثم مطرب الأوبرا الشاب أحمد عفت في أغنية «أعز الناس» لعبدالحليم حافظ. «الإرهاب» الموسيقي كانت وراءه «ميليشيا» حسين الأعظمي وهم كل من عازف آلة الجوزة محمد حسين كمر، وعازف آلة السنطور وسام العزاوي، وعلى الطبلة عبداللطيف العبيدي، وعلى الرق إيهاب وسام العزاوي، بالإضافة إلى «ميليشيا» جوق شباب فاس، ثم «ميليشيا» دار الأوبرا المصرية. ومناسبة هذا العمل الموسيقي «الإرهابي»، الذي خطف ألباب وقلوب الحاضرين طوال نحو ثلاث ساعات، هي توزيع جوائز مسابقة المجمع العربي للموسيقى، حيث فاز عازف الكمان الأردني (العراقي الأصل) محمد عثمان صديق بجائزة التأليف الموسيقي العربي، وفازت بجائزة البحث الموسيقي الدكتورة إيزيس فتح الله من مصر، وفاز بجائزة العمل الموسيقي مطرب المقامات العراقية حسين الأعظمي لدوره النشط في الحفاظ على المقامات العراقية والمساهمة الفاعلة في إحيائها ونشرها. أما جائزة المؤسسات والفرق الموسيقية فقد ذهبت إلى جمعية بعث الموسيقى الأندلسية في مدينة فاس المغربية. وشهدت الليلة الفنية المميزة تكريم الراحلة الدكتورة رتيبة الحفني رئيس المجمع العربي للموسيقى خلال السنوات من 1997م إلى 2013م وأول رئيسة للمركز الثقافي القومي «دار الأوبرا المصرية» والعميد السابق للمعهد العالي للموسيقى العربية ورئيسة سابقة للبيت الفني للموسيقى والأوبرا. ومع فخامة أداء مطربي دار الأوبرا المصرية في الأغاني الطربية، فإنني أتوقف عند ثلاثة أمور: الأمر الأول: هو اهتمام جامعة الدول العربية اللافت والمفاجئ بالفن الموسيقي التراثي العربي. لقد ملّ العرب من حديث السياسة المرتبكة والاقتصاد المتعثر والتنديد والشجب والإدانة إلى آخر الإسطوانة المشروخة. لم يجلب الإرهاب السياسي والديني والطائفي للأمة غير الحروب والدمار والتخلف ومخيمات اللاجئين ومقابر الشهداء. من حقنا على جامعة الدول العربية، وهي كبش الفداء في كل ما يحدث من مآسٍ ونكبات، أن تَمنح الناس الذين يحبون الحياة منبراً للموسيقى، وخشبة للمسرح، وشاشة للسينما، وجداراً للفنون التشكيلية، وميداناً للنصب والتماثيل، وصالة للأزياء الفولكلورية، ورفوفاً للكتب والثقافة. امنحوا المبدعين العرب الفرصة لأن يقولوا كلمتهم في مصير الأمة بدلاً من السفاحين والإرهابيين والطائفيين والتكفيريين والمتخلفين. وكنت أنتظر من أمين عام جامعة الدول العربية أن يحضر بنفسه هذا الاحتفال الموسيقي الرفيع بدلاً من إيفاد ممثل عنه بحجة سفره إلى الخارج. الأمر الثاني: مطرب المقام العراقي حسين الأعظمي. لقد صار هذا الرجل أكاديمية متنقلة لفن المقامات العراقية. لم يبق مهرجان موسيقي عربي أو عالمي في القارات الخمس لم يشارك فيه، للتعريف بهذا الفن التراثي الأصيل. إنه تلميذ نجيب لأيقونة الموسيقى العباسية زرياب، وشيخ قراء المقام العراقي محمد القبنجي، ومجدد روح الشباب فيه ناظم الغزالي. وحين «يُسلطن» الأعظمي مع «فرقة الجالغي البغدادي» المبدعة فإنه يرهب المشاهدين والسامعين بأسلحة «المقام» الشامل، وليس «الدمار» الشامل. لقد أبكانا الأعظمي في تلك الليلة بصوته وهو يجلجل بين أزقة بغداد القديمة، وشناشيل بيوتها العتيقة، وعَبق العنبر والبخور وشجرة ملكة الليل. أما الأمر الثالث، فهو جوق شباب فاس للموسيقى الأندلسية المغربية. في الواقع أن الموسيقى المغربية تأسر الناس وتعود بهم إلى التاريخ والجغرافية وابن خلدون وابن بطوطة. كل الطرب العربي كوم، والطرب في بلدان المغرب العربي كوم آخر. فالمغاربة والتوانسة أساتذة كبار في الحفاظ على الطرب العربي الأصيل منذ عهد الأندلس إلى عهد جامعة الدول العربية! كم نحن بحاجة إلى «إرهاب» المبدعين العرب في الموسيقى والغناء والشعر والرسم والنحت والقصة والرواية والسينما. نريد هذا «الإرهاب» أن يحتل الصفحات الأولى من الصحف العربية والعالمية بدلاً من ذلك الإرهاب الذي يحصد أرواح الأبرياء. شكراً لدار الأوبرا المصرية والمجمع العربي للموسيقى، فقد غسلنا بفنكم العربي والعالمي آذاننا من عشوائيات الفن.