لم يعد الإرهاب مجرد عمليات يقوم بها أفراد أو جماعات محدودة العدد فقيرة القدرات تحدث هنا أو هناك بين حين وآخر بل أصبح ظاهرة خطيرة تلقي بظلالها الكئيبة على المجتمعات في دول عدة من العالم، حيث بات الهاجس الأمني والتصدي لتداعياته أحد أبرز أجندة المرشحين للمناصب القيادية في حملاتهم الانتخابية في الدول الغربية. كما نشهد الآن حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فقد ترك الإرهاب بصمات خطيرة على الأوضاع السياسية في مناطق عدة وانسحبت تداعياته على الوضع العالمي ونظامه، فقد تعزز دور اليمين السياسي بشكل خطير وأصيبت ظاهرة العولمة في الصميم. فمواجهة الإرهاب أصبحت قضية استراتيجية على مستوى العالم على الرغم مما يعتور ذلك من نواقص تتعلق بمحدودية التنسيق بين الدول لمواجهتها. هناك حاجز طبيعي غريزي يمنع الإنسان السوي من سفك دماء غيره فما الذي يجعل هذا الحاجز يتهاوى لدى البعض ليتحولوا إلى وحوش ضارية، فالملاحظ أن العمليات الإرهابية تستهدف حياة الإنسان بالدرجة الأولى وإن استهدفت بعض الممتلكات فلغرض استخدامها لإلحاق المزيد من الخسائر البشرية. في سياق مواجهة الإرهاب أفراداً ومنظمات طرقت الجهات البحثية المختصة جوانب متعددة تتعلق بالأسباب والدوافع التي تكمن وراء الفعل الإرهابي بغية وضع نظرية عن الإرهاب لتكون دليل عمل لمواجهته. وعلى الرغم من أن الدراسات المبكرة اقتصرت على التحليل النفسي لبعض من تمكنت السلطات من اعتقالهم من الإرهابيين بغية التعرف على أبرز مسارات حياتهم وعلى ما قد أحاط بنشأتهم في مرحلة الطفولة من مؤثرات غير سوية. وما تركته من ترسبات تؤهل للانبثاق في مرحلة لاحقة إذ غالباً ما تكون هناك قصة إساءة المعاملة في الطفولة أو التعرض لصدمة أو لمواقف الظلم والإذلال بارزة في السير الذاتية الإرهابية، إلا أن النتائج التي استخلصت من دراسة تاريخ هذه العينة أقنعت هذه الجهات البحثية بضرورة تبني مناهج أخرى في مقاربة هذا الموضوع الخطير. الإرهاب، مصطلح متنازع حول مدلولاته خاصة في العصر الحديث ويجري أحياناً الخلط بين التطرف والإرهاب مع أن التطرف لا يعني بالضرورة اللجوء إلى العنف لتحقيق أغراضه، فهناك متطرفون في جميع المجتمعات إلا أن ما هو مشترك بينهما هو أن جذورهما سياسية. فتاريخ الحركات الإرهابية منذ قديم الزمان ارتبط بأفراد وكيانات وحوادث معروفة ومهمة ولها دلالات سياسية في السياقات التاريخية التي وردت فيها، فالإرهاب غالباً ما يرتبط بصراعات إثنية أو دينية ممارسوه يعتنقون أيديولوجيات متطرفة لا تقف حائلاً أمام السلوك الإرهابي إن لم تكن تروج له وتشجع على ممارسته. إلا أن القليل جداً من أولئك الذين وصفوا بالإرهابيين يصفون أنفسهم على هذا النحو كما أن من الشائع بالنسبة لطرف منخرط في صراع عنيف أن يصف الطرف الآخر بممارسة الإرهاب في سياق تبادل التهم. لا شك أن التحالف الدولي قد حقق نجاحات في الحرب البرية على الإرهاب في العراق وفي سوريا وحقق نجاحات أخرى بالعمليات الخاصة التي استهدفت قيادات الإرهاب، إلا أن ما هو جدير بالإشارة إليه هو أنه في جميع الحروب مهما اشتدت قساوتها تكون هناك قنوات للتواصل بين المتحاربين سواء بشكل مباشر أو عبر وسيط . ولكن التنظيمات الإرهابية لم تنشأ جهازاً سياسياً للتواصل والحوار بل تمحورت حول نفسها في انقطاع تام عن العالم متبنية خيار الموت لنفسها وللآخرين. مسارات هذه الحرب محسومة إذ سيتم هزيمة الإرهاب عسكرياً إلا أن من الصعب الادعاء بالقضاء على الظاهرة نفسها من غير النظر لقضية الإرهاب من خلال عدسة توفر رؤية أوسع وأبعاداً أعمق لرصد ما يغلف المشهد الإرهابي من خيوط معقدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتأريخية والاستعانة بخبراء في البنى الثقافية لوضع تصور واسع في أطر النظام العالمي القائم عن نشأة هذه الظاهرة وتطورها ووصولها إلى هذا المستوى الخطير. فممارسة الإرهاب فعل حربي من نوع خاص، حرب الضعفاء والعاجزين، يفتقر من يخوض غمارها للسلطة المادية أو السياسية أو القيمية التي تؤهله للوقوف علناً في وجه ما يرفض بقاءه. إن التعرف على ما يدفع بعض الناس إلى أحضان المنظمات الإرهابية لم يعد بالمهمة الصعبة لأن الإرهاب بالهيئة التي نشهدها حاضراً لا يخفي هويته ولا يتستر على أهدافه الحقيقية فالتنظيمات الإرهابية البارزة، القاعدة وداعش، تعتنق أيديولوجية ترى في سعينا نحو إبراز إنسانيتنا المشتركة وسيلة لإبادة ثقافتها. لذلك تجعل من القتل واجباً مقدساً يقربها من «المطلق» وما يحيط بوهم القرب هذا من إغراءات مما يدفع للتساؤل فيما إذا كان معتنقو هذه الأيديولوجية يسعون لتعزيز ركائزها أم الاكتفاء بتدمير أنفسهم ومعارضيهم.