كشف أثري يعيد الجدل حول أسرار الحكم في الدولة الفرعونيةجانب من أعمال التنقيب الجديدة عن الآثار القاهرة: عصام فضل جاء إعلان وزير الآثار المصري، خالد عناني، عن اكتشاف مقبرة «أوسرحات» الملقب بـ«مستشار المدينة» التي تعود للأسرة 18 بالدولة القديمة بمنطقة دراع أبو النجا بالبر الغربي لمدينة الأقصر (جنوب مصر)، ليسلط الأضواء للمرة الأولى على منصب مستشار الفرعون في الدولة المصرية القديمة، وطبيعة مهامه، وطريقة اختياره، وكيف بدأت فكرة المنصب الذي كان – بحسب علماء المصريات – من بين مهامه إسداء النصح للفرعون في كل شؤون الحكم. كان اللافت في الكشف الأثري الجديد أنه تم على يد بعثة مصرية تابعة لوزارة الآثار، وتسبب إعلان البعثة أن المقبرة تعود لمستشار المدينة «أوسرحات»، حيث عثروا على قطع أثرية منقوش عليها اسمه، في إثارة الكثير من الأسئلة لدى علماء المصريات، خاصة أن لقب «المستشار» غير معروف ولم يقترن من قبل بالدولة الفرعونية القديمة. ويقول عالم المصريات، الدكتور وسيم السيسي، لـ«المجلة» إن منصب مستشار الملك عند الفراعنة مماثل لمنصب مستشار الرئيس في أيامنا هذه، أي أن الملك أو الفرعون يستشيره في كل أمور الدولة، وعادة ما يكون مسؤولاً عن كل المجالات عدا المجال الحربي، حيث يكون لدى الفرعون اثنان من المستشارين أحدهما عام في كل التخصصات والآخر مستشار حربي، ومنصب المستشار له مكانة كبيرة، فهو أعلى في المكانة والترتيب الوظيفي من منصب كبير الوزراء، أو الوزير في الدولة الفرعونية. ويضيف: «أما عن (أوسرحات) نفسه فقد كان مستشاراً للفرعون خلال حكم الأسرة 18 في الدولة المصرية الحديثة، لكن من غير المعروف في أي فترة على وجه التحديد شغل هذا المنصب، وقد شهدت هذه الأسرة ملوكاً عظاماً أولهم الملك أحمس محرر مصر من الهكسوس، وحور محب واضع قوانين حقوق الإنسان، الذي تصدى بقوة للفتنة الطائفية التي ظهرت في البلاد، في صراع علي ديانة أخناتون الذي عبد الإله (رع) واصفاً الإله بأنه ظاهر في الجسد، بينما رأت الديانة الآمونية أن الإله روح لا يمكن رؤيتها أو محدوديتها في جسد».أحد التوابيت التي تقدم أسراراً عن طريقة حكم الدولة القديمة ودور مستشار الفرعون فيها ويتابع موضحاً أن «منصب مستشار الملك الذي عمل به أوسرحات كانت مهامه دراسة كل ما يحيط بالملك وتقديم النصائح له والخطط، وعادة ما يكون مقرباً جداً من الفرعون. ويعتبر أوسرحات واحداً ضمن اثنين فقط خلال هذه الأسرة اللذين حظيا بهذا المنصب». إذا كانت الحضارة الفرعونية ما زالت تبهر العالم بآثارها الباقية منذ آلاف السنين، التي ما زال علماء الآثار يعكفون على دراسة أسرارها، فإن الدولة الفرعونية بنظامها السياسي ما زالت تثير الجدل بين علماء المصريات باعتبارها أقدم دولة ذات نظام سياسي في التاريخ الإنساني. وعرفت مصر نظام الدولة الرسمية من مستشارين ووزراء وغيرها من المناصب الرسمية منذ بداية عهد الفراعنة فيما يعرف بـ«الدولة القديمة»، وبحسب علماء المصريات استمر النظام السياسي نفسه خلال مرحلة الدولة الوسطى التي بدأت من الأسرة 10 حتى الأسرة 17، وتبعتهما الدولة الحديثة التي بدأت من الأسرة 18. يقول مؤرخ المصريات بسام الشماع، لـ«المجلة» إن الدولة الفرعونية كانت ذات نظام سياسي متكامل، ودولة رسمية على رأسها الفرعون، ثم تتدرج لمستشارين، وكبير الوزراء، وقضاة، ووزراء وغيرها من مناصب الدولة.أثري يحاول فك طلاسم الاكتشافات الفرعونية في جنوب مصر ويضيف: «عثر في أحد المقابر على بردية عبارة عن خطاب أرسله الفرعون للوزير (رخ مي رع) عام 1470 قبل الميلاد يسدي إليه بعض النصائح قائلاً: (لاحظ أن منصب الوزير ليس بالأمر الهين والمحبب، بل ينطوي الأمر أحياناً على مرارة العلقم)، وكان هذا الوزير يحمل نحو 100 لقب، منها مسؤول الضرائب والجزية، ومسؤول استقبال وتلقي الهدايا من الأجانب، فضلاً عن منصبه وزير مصر العليا وعمدة طيبة، وكان يعتبر من أقوى الوزراء في تاريخ مصر الفرعونية». ويرى عالم المصريات الدكتور وسيم السيسي أن قوة الدولة الفرعونية كان مصدرها الرئيسي هو قوة الفرعون، وكفاءة الحكومة والنظام السياسي، ويقول لـ«المجلة»: «رغم أن الحكم كان مقصوراً في أغلب الأحيان على طبقة النبلاء فإن اختيار المناصب كان يتم بناء على الخبرة والكفاءة إلى حد كبير، وقد وجدنا في واحدة من البرديات خطاباً أرسله فرعون لأحد وزرائه يقدم له النصائح عند توليه مهامه حيث قال له: (اعلم أن الوزارة مُرّة الطعم وليست حلوة، واعلم أن الماء والهواء ينقلان لي كل شيء. ولا تقرب منك شخصاً لا يستحق ظناً منك أنه قريب مني، ولا تبعد عنك شخصا ذا كفاءة؛ ظناً منك أنه غير مقرب مني، فاجعل الكفاءة والقدرة أساس اختيارك. واعرف أن احترام الناس لك سيأتي بإقامتك للعدل)». ويضيف السيسي: «هذه قاعدة اختيار الفراعنة للمناصب، لذلك استطاعوا أن يبنوا دولة ثابتة معتمدين على الكفاءات بعيداً عن الوساطة، ويذكر التاريخ أنه في الأسرة 19 في عهد الملك رمسيس الثالث كانت هناك محاكمة تولاها 15 قاضياً، وثبت خلال المحاكمة تواطؤ اثنين من القضاة، فتم الحكم عليهما بالإعدام؛ ونظراً لعلمهما بأنه لا مماطلة ولا محاباة، وأنه لا بد من تنفيذ الحكم، قاما بالانتحار».