×
محافظة المنطقة الشرقية

خالد القروني.. المدرب الناجح..!!

صورة الخبر

وجّه بديع الزمان الهمذانيّ، في المقامة الجاحظيّة، نقدًا لبداهة الجاحظ القائمة على السلاسة، والمباشرة، والإطناب، وكانت تلك البداهة قد أصبحت ميزانا يوزن به القول النثري عند القدماء. جاء النقد مضمرا في تضاعيف السرد ثم كشف عن غايته حينما جرى تشريح نقدي لبلاغة الجاحظ في مجالس الأدب، إذ دار الحديث، في تلك المقامة، على مائدة الطعام حول "ذكر الجاحظ وخطابته"، وفيما انشغل الحضور بالحديث عن هذه البداهة، وإطراء صاحبها، كان بينهم رجل غريب صامت "تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان، وتفقأ عيون الجِفان، وترعى أرض الجيران، وتجول في القصعة، كالرخّ في الرقعة، ويزحم باللقمة اللقمةَ، ويهزم بالمضغة المضغةَ، وهو مع ذلك ساكت لا ينبس بحرف". شُغل المدعوون بالكلام فيما انهمك الغريب بالطعام كأنه غير أبه بشيء، وحينما رفعت المائدة، مضوا في الحديث عن فصاحة أبي عثمان، فتبيّن أن الضيف كان يأكل مصغيا لكل شاردة وواردة، فابتدرهم محتجّا "يا قوم لكلّ عمل رجال، ولكلّ مقام مقال، ولكلّ دار سكّان، ولكلّ زمان جاحظ". فلما استنكروا قوله، وقد توهموا جهله، مضى يفسّر "إن الجاحظ في أحد شقّي البلاغة يقطف، وفي الآخر يقف، والبليغ من لم يُقصر نظمه عن نثره، ولم يُزر كلامه بشعره، فهل ترون للجاحظ شعرا رائعا؟" فلمّا جاءه جوابهم بالنفي، استأنف الحديث حول نثره "هلمّوا إلى كلامه، فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعُريان الكلام يستعمله، نفور من مُعتاصه يهمله. فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟". فوافقوه على أن الجاحظ مفتقر إلى كلّ ذلك، فعاجلهم بأن ارتجل شعرا يرجوهم فيه أن يظهروا كرمهم، فيزيلوا كربته، ويطفئوا حاجته "فارتاحت الجماعة إليه، وانثالت الصلات عليه". وحينما أسفر عن وجهه، فإذا به أبو الفتح الإسكندري، الشخصية المترحّلة في مقامات الهمذاني، الذي يلبس لكل مقام لبوسه. في سياق تخريب بلاغة الجاحظ تقصّد الإسكندري أن يفصح عن رأيه بالنثر والنظم معا، وانتهت مائدة الطعام إلى أن الجميع اتفقوا على الشكّ في تلك البلاغة الموروثة، والبداهة المعهودة. بدأ ذلك بأن بدّد حماستهم الأولية للجاحظ، فأنّبهم على جهلهم، إذ "لكل دار سكّان" فليس من شأنهم الحديث عمّا لا يعرفون، فلّما استنكروا قوله، مضى في بسط حججه. فالجاحظ لم يؤت البلاغة لأنه إذا نثر أتى بالعجب، وإذا شعر قصّر دون الغاية، وليس هذا من صفات البلغاء حيث ينبغي على البليغ أن يبرز في النوعين، وبما أنه ليس للجاحظ شعر، فقد انهار ركن من أركان بلاغته، فمن يدّعي البلاغة فإنما ينبغي أن يكون مجيدا في النثر والنظم معا فلا يزري أحدهما بالآخر. وبتجريد الجاحظ من البلاغة، انصرف الإسكندري إلى النظر في نثره، فهو نادر الاستعارات لأنه يسلك مسلك الحقيقة، ومعينه ناضب، وقريحته ناشفة، فكثر عنده قرب العبارات التي لا ترقى على مألوف الكلام بمرتبة عالية، إلى ذلك فكلامه عريان، لا مسحة فيه من حسن سبك ولا فصاحة، ثم أن مجمل قوله مستعار من كلام السابقين، فهو شائع، لا يستطرفه سمع، ولا تلطّفه صنعة. عاش الهمذاني في غير عصر الجاحظ، وقد أصبحت للبلاغة معاييرها المختلفة، فينبغي إجادة ركني القول الأدبي: الشعر والنثر، وبغياب أحدهما تثلم بلاغة الأديب، وتنطلق عرجاء، فالجاحظ يمشي برجل واحدة، ثم أن النثر لم يعد خاضعا للبداهة القديمة التي كرّسها الأولون، إنما غزته صنعة جديدة، وهذه يفتقر إليها الجاحظ، فإذا ما أنعم النظر في نثره لظهر بسيطا يقول المعاني بلا التواء، ويصرّح بها بلا تكلّف، فكأنه لا يكتب أدبا إنما يجري حديثا عاديا، فيما ينبغي أن تتوارى خلف غلالة الصنعة التي تكسبها طرافة جديدة، وبكل هذا جرّد الجاحظ من مقوّمين أساسيين استجدّا في عصر بديع الزمان، ولم يكونا ذا أهمية في عصر أبي عثمان. فرضت البداهة الجديدة شروطا لم تكن في الحسبان، فلم يقتصر أمرها على إجادة القول في ركني الكلام: النظم والنثر، إنما مضت في مقترح لم يطرق سمع القدماء، وهو تبادل المواقع فيما بينهما، والتعبير بهما عن المقاصد والغايات، فيؤدي هذا إلى ضرب آخر من الأدب ينقطع عن أصل قديم، ويؤسّس لفصل جديد، وعلى البليغ أن يعرفه، ويجوّد فيه، فلا غرابة أن يبرع الهمذاني في ذلك، ويعبّر عن نفسه نثرا ونظما، ثم يجعل من مقاماته مضمارا تتسابق فيه أشكال القول الأدبي، وتتداخل، فينثر أبو الفتح الإسكندري الكلام معبّرا عن مقاصده، ويرتجل الشعر عارضا حاجته، فيثير العجب بهما معا، ومروياته جامعة لنصوص عصره، إلى ذلك فهو في ارتحال دائم لا تحدّه تخوم، ولا تردعه مخاوف، وقد تجرّد لخوض الصعاب. ومع أنه ينطق بعربية رفيعة في فصاحتها فإن كثيرا من الأحداث السردية وقعت في مدن لم تكن العربية فيها اللغة الأولى، إن لم تكن اللغات الأعجمية، وبخاصة الأمصار النائية في شرق دار الإسلام. ماذا جرى لتنقلب المعايير القديمة الموروثة، وينحسر أثرها، وتنطفئ قيمتها، وتحلّ مكانها معايير كتابيّة مملوءة بالاستعارات البعيدة، والمعاني المتوارية، والألفاظ الملغزة؟ ولماذا تراجعت بداهة التعبير العربية القديمة، وتقدّمت بداهة التصنّع الجديدة؟ يصعب فهم ذلك إلا إذا أخذنا في الحسبان التمازج الثقافيّ والعرقيّ، فقد دخل المكوّن الأجنبيّ حاملاً معه تركيباته العقليّة والتخيّليّة، وجرى تطعيم ثقافيّ عامّ، فصارت الكتابة صنعة يتبارى فيها الكتّاب، وليس تعبيرًا عن بداهة، وفيض خاطر. ثم انحسر التفكير الشفوي، وترنّحت مقوماته الأسلوبية والمعنوية، وانبثق ضرب مغاير من التأليف المركّب، فالمقامات هي التي دشّنت للحقبة الكتابية في الثقافة العربية القديمة. كشف موقف الهمذانيّ من الجاحظ عن جانب من حالة الالتباس الثقافي في القرن الرابع الهجري، وأعطى شرعية الخروج على طوق القدماء، فقد وقع التشكيك في البداهة النثريّة الموروثة، ووصم رائدها بضحالة الأسلوب، واتّسع الرتق بمرور الوقت حتى أصبح تقليدا أدبيا قائما بذاته، لكن مقامات الهمذاني نفسها استلهمت روح الهزل والسخرية التي أرساها صاحب "البخلاء". كان الجاحظ ماهرا في عرض صور المبالغة والمفارقة، وتضخيم الخطأ، فبخلاؤه يتبارَون في فلسفة الشحّ داخل مجتمع عرف بالكرم. لا يقوم الجاحظ باستحضار نسق الكرم، والجود، والعطاء، فلا يكاد يذكر الطائيّ، لكنّ التفنّن في ضروب البخل يُقدّم نماذج من الأشحّاء يرتقي بخلهم إلى درجة اللؤم، فكلما توهمنا بخيلاً بلغ النهاية في شحّه، تفوّق عليه آخر بما يضنّ به على غيره. وهذا النسق المتصاعد من سباق التبخّل، وقفل اليدين، لا يفهم بذاته إنما بعرضه على الخلفيّة القيميّة في الثقافة العربيّة عن الكرم، وفجأة توضع الصورتان البيضاء والسوداء جنبًا إلى جنب. اتصف الجاحظ بحساسية عالية في رسم المفارقة، فهو يبالغ في وصف سياق لا ليجعلنا ننسى سياقًا مناقضًا بل ليدفعنا إلى استحضاره. وبالتوازي مع ذلك، وبالشروط نفسها، ظهرت ممارسات الكدية والاحتيال والتنكّر في المقامات، فلا يراد منها التبشير بسلوك شائن إنما الاعتبار بالمواقف اعتمادا على مبدأ التنكّر واستبدال الهويات السردية. استأثر الهمذاني بمفارقة الجاحظ، وعرّض بأسلوبه. شرعت مظاهر التعقيد تغزو الكتابة السرديّة والشعريّة، واختلفت فيها درجة التمثيل، وفُرّق بين وجوه التشبيه، ولمعرفة المقاصد ينبغي بذل الجهد، واللجوء إلى التأويل. شعرت الآداب الجديدة بحاجتها إلى الانفصال عن القديمة، فتهجّم كثيرون على الأدب القديم، وامتدّ الشكّ إلى صلاحيته فقد أصبح جزءًا من ذاكرة وليس مكوّنا فاعلاً في ذائقة جديدة.