لقد صار العربي يرى كارهي أوطانهم سادة في بلدان هم حثالتها. ألا يكفي ذلك سببا لكي ينفض الكثيرون أيديهم من الوطن.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/05/04، العدد: 10622، ص(9)] في أزمنة الإنشاء المدرسي لم يكن المرء في حاجة إلى أن يجيب على سؤال وردي من نوع “لماذا نحب أوطاننا؟”. كان الطغاة يومها في الأعالي، غير أن الأوطان كانت مستقرة وإن في مكان سفلي. لم يكن المرء في حاجة إلى أن يتساءل أين يقع وطنه. فالطغاة لم يحجبوا بشموسهم الساطعة الأوطان. على الأقل كانت فكرة الوطن تركض لاهثة بين سطور خطاباتهم. لا يشكك أحد في وطنية أولئك الطغاة الغابرين، بل قد تكمن واحدة من أعقد مشكلاتهم في شحنة وطنيتهم الزائدة. لقد وأد مرضهم الوطني في نفوسهم القدرة على رؤية الإنسان حرا، مستقلا وكريما. فهم من خلال وطنيتهم تجاوزوا مفهوم الإنسان الذي ابتكر مفهوم الوطن من أجله. لذلك كان الوطن ترابا ومياها وهواء وتاريخا من غير أن يكون هناك ذكر للإنسان الذي غُيّب من أجل أن يكون الوطن خالدا. كان شاعر عراقي قد لخص علاقة الحاكم بالوطن ببيت مأثور يقول فيه “إذا قال صدام قال العراق”، وهو ما يعني تماهي الزعيم مع الوطن إلى درجة التطابق. ولأن أحدا لا يستطيع التشكيك بوطنية صدام حسين، فقد وجد البعض ممَّن قبلوا لأنفسهم أن ينخرطوا في مشاريع تهدف إلى تمييع الشعور الوطني وإذابته أن تلك الوطنية كانت هي السبب في تدمير العراق. ظاهريا تبدو الفكرة مقنعة، غير أنه في إمكان من يتفحصها من الداخل أن يدرك أن تلك الفكرة تضرب عصفورين بحجر واحد. فهي من جهة تدمغ الوطنية بختم شرير يجعلها جزءا من نزعة العنف التي سادت في العراق خلال السنوات التي حكم فيها صدام حسين رئيسا، ومن جهة أخرى فإنها تعزو زوال العراق إلى نوع مريض من الوطنية لا إلى مشروع الغزو الأميركي الذي أنتج احتلالا لحقته حكومات لا تؤمن بالعراق وطنا. ربما علينا أن نخرج موضوع العراق من رأسنا بسبب ما ينطوي عليه من تقاطعات سياسية تاريخية، كان العراق قد وقع ضحية بعد أن غمره الطغاة عبر التاريخ بمياه بطولاتهم. الوطنية في غير مكان من العالم العربي تتعرض اليوم للنسف من الداخل. ما من شيء يشير إلى أن سياسيي تلك الأماكن يحبون أوطانهم، فإضافة إلى أنهم لا يجيدون كتابة الإنشاء المدرسي، فإن أفعالهم تكشف كم هم بعيدون عن الموقع الذي يجعل الإنسان محبّا لوطنه من غير سؤال. مَن يحب وطنه لا يسرقه ولا يتآمر عليه، ولا ينشر الفتنة والفساد فيه، ولا يعطّل حيويته ولا يبث روح الكسل في خدمه الساهرين على صحته، ولا يحارب كفاءاته ويعلّي من شأن جهلته، ولا يمس ثوابته ولا يغلب عقيدته عليه، ولا يضعه على موائد الآخرين، ولا يرضى أن يكون الوطن غنيمة لأي أحد. لذلك فإن الوطن كان هو الخاسر الأول بسبب صعود سياسيين غير معنيين بحبه. فهم لا يؤمنون به. لا يؤمنون بنظافته ونزاهته وكرامته وحريته ومستقبله وعلو شأنه وسعة صدره وأبوته وقدرته على البقاء عبر أجيال، سيكون سؤالها الوحيد “لماذا كرهتم أوطانكم؟”. ولكن السؤال الأسوأ الذي سيعذب الأجيال المقبلة هو “لماذا بعتم أوطانكم؟” وهو سؤال يعبّر عن حقيقة ما جرى ويجري في العالم العربي. لقد أفسد السياسيون الطالعون من الأزمات كل شيء يمت بصلة إلى علاقة الإنسان بوطنه. يفضل اليمني والعراقي والسوري والليبي أن يكون لاجئا في الغرب على أن يظل عالقا في الأرض الحرام التي تفصل بين المحاربين. تلك الأرض التي كان اسمها يوما ما وطنا. لقد تحولت الأوطان إلى أماكن للقتل المجاني والعبثي الذي لن ينتهي إذ لا يمكن التكهّن متى ينتهي. لقد صار العربي يرى كارهي أوطانهم سادة في بلدان هم حثالتها. ألا يكفي ذلك سببا لكي ينفض الكثيرون أيديهم من الوطن. كاتب عراقيفاروق يوسف