منذ عام 3000 قبل الميلاد، برزت بوادر علم الطب في الزمن القديم بمصر، وكان التطور بطيئاً لكنه كان متزايداً، حتى عام 400 قبل الميلاد، فبدأ أبقراط ممارسة الطب وتعليمه وأصبح حينها أبا الطب، الذي لا يزال طلبة الطب حتى اليوم يرددون قَسَمَه حين تخرجهم ليصبحوا أطباء. وتوالت العصور على هذا العلم ليتفرع ويتعدد في أكثر من 120 اختصاصاً تمارَس يومياً في هذا العالم! ومن التخصصات الحديثة نسبياً، تخصص "طب الفضاء" الذي يُعنى بصحة وسلامة رواد الفضاء في رحلاتهم الفضائية، التي قد تستغرق سنين طويلة من التحضير والدراسات والتدريب والوصول إلى غايتهم، معرَّضين لانخفاض كثافة الجو المحيط على ارتفاع 18 ألف قدم، ثم رقّة الغلاف الجوي وقلة الأكسجين على ارتفاع 4 آلاف قدم، وتبدّل في الضغط الجوي يكفي لغليان سوائل الجسم وتكوين فقاعات النيتروجين حولها على ارتفاع 63 ألف قدم. وتعد "سويوز 11" عام 1971 أهم حادثة مسجلة للوفاة الناجمة عن انخفاض الضغط في رحلة إلى الفضاء، وقد أدت إلى وفاة رواد الفضاء الثلاثة على متنها؛ ما يطرَح أهمّ الأسئلة حول قابلية الجسم البشري لأن يعيش في الفضاء من عدمها؟ تتعلق رحلة الفضاء بالعديد من العوامل التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في الجسم البشري؛ أهمها:الفراغ إن وظائف الأعضاء البشرية مصممة لتتأقلم مع مستوى معين من الغازات الموجودة في الجو، أهمها الأكسجين، فإذا ما تعرضت لبيئة فيها نسبة أكسجين أقل من الضغط الجزئي للأكسجين (وهو 16 كيلو باسكال/0.16 بار)؛ فإن فقدان الوعي والموت بسبب نقص التأكسج هو المصير المتوقع. تعمل الرئتان على تبادل الغازات، وعندما يكون الإنسان في الفراغ ينتج من عملية التبادل زوال جميع الغازات، وخلال 12 ثانية سيصل الدم غير المؤكسج إلى الدماغ، وسيؤدي إلى فقدان الوعي والوفاة.الحرارة الفضاء بارد، فدرجة الحرارة في الفضاء الخارجي تعادل سالب 270 درجة مئوية، في حين أن درجة حرارة الجسم البشري تعادل 37 كلفن، وعملية انخفاض الحرارة تعدّ بطيئة، فما يمكننا قوله هو أنه لن يتعرض الإنسان لحالة تجمد فوري. لكن، إذا ما انتهت هذه العملية البطيئة؛ فسيصبح الجسم البشري كتلةً من الصقيع تحتّم الوفاة.الإشعاع نعلم أن الإنسان يتعرض للإشعاع على الأرض، لكن في الفضاء يتضاعف الإشعاع الذي يتعرض له الإنسان 10 أضعاف ما يتعرض له على الأرض؛ فيؤثر بشكل لا يُستَهان به في الخلايا الليمفاوية، التي تشكل عماد الجهاز المناعي، وترفع فرص الإصابة بالسرطان ارتفاعاً ملحوظاً على المدى المتوسط. لكن التأجج الإشعاعي الذي يمكن أن يتعرض له الجسم البشري من دون حماية في الفضاء، سيؤدي إلى مقتله خلال ثوانٍ معدودة.كيف يتعامل رواد الفضاء مع هذه العوامل؟ أجاب عن هذا السؤال مئات الباحثين والعاملين في مجال الفضاء منذ عشرات السنين؛ وهي: عن طريق "بدلة الفضاء" التي تمدّ رائد الفضاء بالأكسجين، وتؤمّن تكييفاً حرارياً مناسباً، يتفهّم برودة الفراغ الفضائي، ووجود الشمس في المحيط، وتحمي البدلة رائد الفضاء من الإشعاعات الضارة، وتمكنه من الرؤية بوضوح، وتتيح له تحريك جسمه بسهولة داخلها، بالإضافة إلى تقنيات التواصل للتحدث مع زملائه ومع المحطات الأرضية. تزوَّد البدلة بطبقة قادرة على امتصاص البول الذي يخرجه رائد الفضاء، وأيضاً أنبوبة للشرب وأسطوانة أكسجين احتياطي.طب الفضاء أول من طرح مصطلح "طب الفضاء" هو الألماني هابيرتوس ستارغهولد، وهو طبيب أُحضر إلى الولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية عام 1948، فأخذ يُجري تجاربه على الحيوانات، حتى قام السوفييت بوضع كلب في مركبة فضائية عام 1957، ثم وضع الأميركيون قرداً في مركبة فضائية؛ ما قدم عريضة أولية حول إمكانية الحفاظ على الأعضاء الحيوية من الخطر. طب الفضاء هو المسؤول عن الحفاظ على حياة رواد الفضاء الذين يبعدون ملايين الأميال عن أقرب مستشفى! وهذا يتطلب وجود أجهزة صغيرة متطورة للتشخيص، وربما علاج الأمراض التي يمكن أن يتعرض لها رائد الفضاء، بالإضافة إلى تجهيزات اتصال تسمح للمسؤول الطبي في المركبة الفضائية باستشارة الخبراء الموجودين على الأرض. وتنضوي المراقبة الأساسية للحالة الصحية لرواد الفضاء على: التقييم السريري وذلك بواسطة أجهزة حساسة صغيرة موجودة لتراقب العلامات الحيوية الأساسية، خصوصاً في أثناء النوم، تكون مرتبطة بأجهزة المركبة الفضائية التي تراقب درجة الحرارة والضغط ونسبة الأكسجين، وغيرها من المعايير المؤثرة على حياة رائد الفضاء. العمل على التأقلم مع التغيرات الفيزيولوجية يؤثر انعدام الوزن في الفضاء سلباً في الجهاز العضلي ونظام الهيكل العظمي؛ ما يؤدي إلى فقدان كتلة العظام مع مرور الوقت. لذلك، تُخَصَّص برامج تدريبية خاصة، مثل ركوب الدراجات والركض ورفع الأثقال؛ للتقليل من الأضرار، ثم يتابع أطباء الفضاء مع المتضررين بأنظمة خاصة للتعافي، فيحتاج وقتاً مماثلاً لوقت التعرض كأن يحتاج رائد الفضاء الذي أمضى 6 أشهر في الفضاء إلى 6 أشهر من المعالجات. كذلك، يؤثر انعدام الوزن في العضلات، وخصوصاً العضلات الصغيرة التي يصبح استخدامها في الفضاء شبه معدوم؛ ما يسبب نشوء آلام فيها، مثل الكاحلين اللذين نستخدمهما على الأرض لتحقيق التوازن، الأمر الذي لا يحتاجون إليه في الفضاء. فيقوم أطباء الفضاء بابتكار ألعاب وطرق متجددة ومختلفة يومياً؛ للمساهمة في منع العضلات الصغيرة من إحداث آلام تعيق رحلة رواد الفضاء. أما التدخلات الطبية في الفضاء، فتنقسم إلى 4 فئات أساسية: (غير الطارئة، الطارئة، الإشعاعية، المخاطر الأخرى). 1- غير الطارئة وهي الحالات المَرضية التي قد تصيب رواد الفضاء؛ مثل: الدوار، والصداع، وآلام الظهر، والحساسية الجلدية، والمشاكل التناسلية. ويكون تدبيرها بإرشادات دوائية لعقاقير موجودة أصلاً على المركبة، أو بحمية يصفها المسؤول الطبي.2- الطارئة وتعد أبرزها، الحاجة الملحّة للعمليات الجراحية، وهنا يكمن دور الروبوتات الجراحية التي تكون مصممة ومدربة مسبقاً على الأرض بإجراء العمليات الجراحية الضرورية جداً، التي لا تحتمل انتظار العودة إلى الأرض، والتي يمكن المخاطرة بالقيام بها في ظل الظروف التي تجعل شفاء الجروح أبطأ والدم والسوائل أصعب سيطرةً.3- الإشعاعية الانفجارات الإشعاعية هي الخطر الأعظم، ويسدي أطباء الفضاء بعض النصائح، التي تتضمن معالجة الحروق الناتجة، أو استخدام مواد معينة للتقليل من الأضرار، ريثما تصل المركبة إلى الأرض، فتستدعي هذه الحالات إنهاء المهمة، وإعادة الطاقم إلى الأرض بأسرع وقت ممكن.4- المخاطر الأخرى مثل: التسمم، والحروق الإلكترونية، وحدوث السرطان، والتعرض للمواد الكيماوية والضجيج. وتُعد هذه الحالات نادرة، وتدبر بدراسة كل حالة على حدة، مع العوامل المؤثرة، ويتراوح الحلّ بين بضعة إرشادات تساعد على الاستشفاء أو حتى إنهاء المهمة في بعض الأحيان.