الشعب الفلسطيني رغم التعددية السياسية والثقافية التي يتسم بها تاريخياً، إلا أنه من أكثر الشعوب العربية توحداً والتحاماً حول قضيته، فالفلسطينيون لا يختلفون على حقوقهم التاريخية والجغرافية والقومية والوطنية والدينية في وطنهم فلسطين، ولكنهم في غالب الأحيان كان الاختلاف يقع بينهم حول الأساليب والرؤى التي يتوجب استعمالها والاستناد إليها لتحقيق حقوقهم المشروعة في وطنهم فلسطين. الشعب الفلسطيني دائماً متفق وقواه حول الرؤى الإستراتيجية العليا والتي يحددها التاريخ والجغرافيا والعقيدة، ومختلفاً حول الرؤى والسياسات والإستراتيجيات المرحلية والتي يمليها واقع ميزان القوى والنظام الإقليمي والدولي القائم، والمصالح الآنية والضرورية للشعب الفلسطيني، ومن خلال هذه الاختلافات كانت القوى الإقليمية والدولية تجد ضالتها في الاستخدام والتوظيف في القضية الفلسطينية لحساباتها الإقليمية والدولية، وتجد من الفلسطينيين وقواهم من تلتقي ومصالحه الفئوية أو الحزبية مع هذا الاستخدام والتوظيف، تحت شعارات شتى ظاهرها مصلحة فلسطين وقضيتها، وحقيقتها مصلحة الفصيل أو الحزب في تمكين دوره وتدعيم علاقاته الدولية على حساب مستقبل القضية ومصالح الشعب الفلسطيني. لقد نضجت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي خاضت أشكال النضال كافة على اختلافاتها الإيديولوجية السياسية، الوطنية والقومية واليسارية مع نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، بعد ربع قرن من النضال، ومع تفجر الانتفاضة المجيدة تمكنت من تحديد ما هو مرحلي، وما هو ممكن، والذي يجب أن يمثل إستراتيجية الحد الأدنى، أو إستراتيجية المرحلة التي تراعي مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته، وأدى ذلك إلى إعلان المجلس الوطني الفلسطيني في 15-11-1988م إعلان الاستقلال المتضمن إعلان قيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس على الأراضي المحتلة عام 1967م، والذي لم يلق قبولاً من قبل فصائل التيار الإسلامي، بل قوبل بالرفض لهذا الإعلان كونه لا يلبي احتياجات الشعب الفلسطيني ولا يعبر عن تطلعاته، وأن فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وإنما هي للأمة الإسلامية ووقف إسلامي من وجهة نظرها، لتمثل منظمات هذا التيار استمرارية للخلافات الفلسطينية القائمة على أساس اختلاف الرؤى والأساليب، ولتتيح من جديد لقوى إقليمية ودولية استعادة دور التوظيف والاستخدام في القضية الفلسطينية لحساباتها المختلفة، وتتيح ثغرة في الجسد السياسي الفلسطيني أمام قوى الأعداء للنفاذ منها واستغلالها والتذرع بها للهروب إلى الأمام من كل استحقاقات المرحلة، التي تفرض عليهم تقديم التنازلات والاستحقاقات التي تمليها الشرعية الدولية وميزان القوى القائم. اليوم يتنفس الفلسطينيون الصعداء، بعد مشاهدتهم التوقيع على اتفاق المصالحة بين منظمة التحرير وحركة حماس، وفق مرجعية واضحة متفق عليها، وآليات تنفيذية تعيد الوحدة للوطن الفلسطيني وللفصائل الفلسطينية على قاعدة الشراكة في الكفاح الوطني وبناء المؤسسة الوطنية، وعلى أساس الرؤيا السياسية الواحدة لإدارة الصراع، والمنسجمة مع الواقع الإقليمي والدولي والشرعية الدولية، والتي تمثل البرنامج المرحلي الذي سبق أن أقره المجلس الوطني الفلسطيني في خطوطه العريضة عام 1974م، وجاء التأكيد عليه وتفصيله في إعلان الاستقلال الذي أقره أيضاً المجلس الوطني الفلسطيني في 15-11-1988م، ومع اكتمال تنفيذ خطوات المصالحة التي تم الاتفاق عليها، سيكون الوضع الفلسطيني قد طوى صفحة سوداء في تاريخه الوطني، ووضع الأساس السليم لوحدة القيادة ووحدة المؤسسة ووحدة الرؤيا السياسية، التي بواسطتها وعلى أساسها سيقود الفلسطينيون صراعهم مع العدو، لتحقيق أهدافهم المشروعة وفق برنامج النضال الوطني الفلسطيني والذي يحظى بدعم الأشقاء وأغلبية المجتمع الدولي. المصالحة الفلسطينية أسقطت الذرائع من يد الاحتلال الصهيوني، ومن يد حلفائه، لذلك ترى اليوم الرد الفعلي العصبي من قادة الكيان الصهيوني على توقيع اتفاق المصالحة، كما الولايات المتحدة التي اعتبرت اتفاق المصالحة عقبة في طريق المفاوضات والسلام ويمثل خيبة أمل...!، الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فقد أسقط اتفاق المصالحة هذه الذرائعية، التي تغطي بها الكيان الصهيوني ومعه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، للنكوث والتلكؤ والمماطلة والتسويف، وإفراغ المفاوضات من مضمونها، فاتفاق المصالحة الفلسطينية يمهد الطريق لإجراء مفاوضات جادة دون التشكيك بالطرف الفلسطيني وقدرته على الوفاء بما يترتب عليه من التزامات آنية ومستقبلية، قد يحددها اتفاق التسوية المنشود، كما أن المصالحة هي قوة وانتصار للشعب الفلسطيني على سياسات الاستخدام والاستقطاب والتوظيف السياسي من قبل قوى إقليمية ودولية عديدة، غالباً ما وجدت في الاختلافات الفلسطينية منفذاً لها للاستثمار في القضية الفلسطيني لحساباتها الخاصة، فالمصالحة الفلسطينية قوة وانتصار لإرادة الشعب الفلسطيني ولحقوقه الوطنية المشروعة، كما هي قوة وانتصار لإرادة السلام، وهزيمة للأعداء ولأعداء السلام، ولقوى الاستقطابات الإقليمية والدولية، التي لا يهمها شأن الشعب الفلسطيني وقضيته بقدر ما تهمها مصالحها الضيقة على حساب معاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه.