كان في الثلاثينات من عمره عندما تقلد السلطة وتمكن من هزيمة جماعة يمينية متطرفة شريرة هددت بتدمير فرنسا. كان يتمتع بثقافة رفيعة وذكاء واضح، وتلقى أرقى مستوى تعليمي وفرته فرنسا لأبنائها، ونجح في استثمار ما تعلمه والاستفادة منه. كانت طموحاته كبيرة بشأن وحدة القارة الأوروبية وتبوؤ فرنسا موقع الصدارة. نظر إلى بريطانيا المنعزلة نظرة غضب لا تخلو من ازدراء. فكر الرجل في عمل عسكري في سوريا، فقد أراد إعادة عشرات الآلاف من الفرنسيين المنفيين في لندن مجددا إلى بلادهم للمساهمة في ازدهارها. ولم يعد الرجل بأكثر من ثورة شعبية «لكسر الجمود الذي تعيشه فرنسا». ينطبق الوصف تماما على مانويل ماكرون ونابليون بونابرت، على اعتبار أن ماكرون سيهزم مارين لوبان، مرشحة «الجبهة الوطنية» في الجولة الأخيرة من الانتخابات الفرنسية المقررة في 7 مايو (أيار) بالضبط كما سحق نابليون الملكيين في فترة «البوربون» التي تلت الثورة الفرنسية عندما حاولوا القيام بانقلاب عام 1795. فحتى هجوم السيدة لوبان على خصمها بوصفه شخصا لا يحب فرنسا يشبه إلى حد كبير الملكيين في فترة «البوربون» ووصفهم لنابليون بالكورسيكي الدخيل. فمرشح الرئاسة ماكرون، الذي تتبنى حركته «أون مارشيه» مصطلحا عشقه نابليون، لا يبالي بالمقارنة بينهما. بالطبع، فإن الثورة الديمقراطية التي قال ماكرون إنه يتمنى أن تؤدي إلى انتخابه بعيدة كل البعد عن الانقلاب العسكري الذي أتى بنابليون للسلطة في نوفمبر (تشرين ثاني) 1799، واستمر محكما قبضته عليها حتى عام 1815. وشأن نابليون، فماكرون الذي يصف نفسه بالبرغماتي ذي التوجه الوسطي، يقول إنه سيسمو فوق حزبية اليسار واليمين التي أفسدت السياسة الفرنسية على مدار العقود الأخيرة. فنابليون نجح في «كسر الحصار» المفروض على فرنسا عن طريق الإصلاحات التعليمية والقضائية والمالية والدينية والتجارية، والتي لا يزال الكثير منها ساريا حتى اليوم. فوسام «جوقة الشرف»، و«بنك فرنسا»، و«مجلس الدولة»، والنظام التعليمي والكثير من فن العمارة الباريسية جميعها إنجازات نابليونية تشهد على عبقريته بعد مرور 200 عام كاملة. يعد ماكرون بشجاعة مماثلة لشجاعة نابليون قائلا: «لا أعتزم إصلاح فرنسا، لكنني أعتزم عمل تغييرات في أعمق المستويات»، بحسب تصريح صحافي أدلى به مؤخرا. لكن هل ستستطيع «الثورة الديمقراطية» صنع مثل تلك الآثار الخالدة؟ ولد ماكرون في مدينة أمينز، المدينة التي أرسل نابليون شقيقه جوزيف إليها للتفاوض من أجل إحلال السلام بين بريطانيا وفرنسا عام 1802. لكن الاتفاقية التي وقعت هناك لم تستمر سوى عام واحد فقط قبل أن تتجدد العداوة، وكان من أسباب ذلك علاقة التجارة الحرة مع أوروبا والتي لم يسمح نابليون أن تتمتع بها بريطانيا خوفا من تأثير ذلك على الصناعة الفرنسية. فالمفاوضات التي تلت «بريكست»، أو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والتي من المرجح أن يلعب فيها ماكرون دورا مهما، لها ظلالها التاريخية العميقة. وبانهيار اتفاقية السلام بمدينة أمينز عام 1803، أغرى نابليون جميع الفرنسيين المنفيين في لندن بالعودة بعد أن هربوا أثناء الثورة، وبالفعل عادوا بأعداد غفيرة ربما تفوق أعداد الفرنسيين الذي فضلوا العيش في المنفى بسبب شريحة الضرائب العليا التي بلغت 75 في المائة، والتي فرضت على البعض في عهد فرنسوا هولاند عندما كان ماكرون وزيرا للاقتصاد، وكان ذلك بين عامي 2014 و2016. فالرعب من صعود «الجبهة الوطنية» الذي دفع بماكرون للأمام وجعله قريبا من تحقيق النصر يوجه له اللوم جزئيا بشأن شارل دي غول. فقد وضع ديغول الإطار المؤسسي لصلاحيات الرئاسة الفرنسة عام 1958 في ديكتاتورية قريبة الشبه من تلك التي مارسها نابليون. فقد كان من المعتقد أن وجود حكومة مركزية قوية قد عاد بالنفع على فرنسا، وهو ما لم يكن موجودا في الجمهوريات الثانية، والثالثة، والرابعة التي تلتها. كذلك سار ديغول على نهج نابليون في التصويت على جولات متتالية وذلك لغربلة المتنافسين. فقد افترض ديغول أن ذلك من شأنه أن يضمن وصول مرشحي وسط من اليمين واليسار للجولة النهائية. غير أن ظهور جين ماري لوبان عام 2002، والآن ابنته مارين، نسف فرضية الإرضاء تلك، وما ساعد على ذلك الطمع والابتزاز الذي مارسه مرشح تيار يمين الوسط فرنسوا فيون الذي كان بمقدوره الوصول إلى جولة الإعادة بدلا من السيدة لوبان. ولذلك يحق للرجل الذي يعتبر أفضل من ولدته فرنسا منذ عهد نابليون أن يندم على خطأ حساباته. لكن المادة السمية الموجودة في السياسة الفرنسية الحديثة لن تمثل مفاجأة لنابليون، فقد نجا الرجل من الكثير من محاولات الاغتيال، كما حدث مع ديغول لاحقا. لكن حتى فساد اليوم لن يمثل شيئا لو لم يفز في الانتخابات المقررة في 7 مايو (أيار). فالانتصار الفاشيستي الجديد ربما يؤدي إلى ثورة في الضواحي والتي ستتذكر أحداث 1848، و1871، و1968 عندما تحولت الاحتجاجات إلى إراقة للدماء. لو فاز ماكرون، فسوف يرث دولة جامدة، غير منتجة، بيروقراطية بدرجه كبيرة وحزبية ذات مشكلات أمنية ضخمة. فبوصفه ديمقراطيا فريدا، وليس متظاهرا ولا مدعيا تطبيقها، فلن يكون لماكرون رفاهية تحقيق ما حققه نابليون.