×
محافظة المنطقة الشرقية

العهد الزاهر بالإنجازات

صورة الخبر

سان دييغو (ولاية كاليفورنيا): عبد الرحمن البيطار ميتسوكو أوشيدا، عازفة يابانية متميزة وإحدى أهم عازفي البيانو في العصر الحديث تنجح في تحدي الموسيقى الكلاسيكية الغربية (وبالخصوص قطعتين صعبتين لكبار المؤلفين: شوبرت وبيتهوفن) في شرق الولايات المتحدة في نيويورك وفي غربها في سان دييغو. هذا هو الحدث الفني الكبير هذا الشهر، فهي مختصة في عزف أعمال هذين العملاقين وكذلك سلفهما الموسيقار موتسارت. أحبت أوشيدا هذا النوع من الفن منذ نعومة أظافرها حين نشأت في فيينا أثناء عمل والدها سفيرا لليابان في النمسا في ستينات القرن الماضي. قدمت أوشيدا نفس البرنامج في قاعة كارنيجي العريقة في نيويورك وكذلك في قاعة متحف الفن الحديث في لاهويا ضاحية سان دييغو الراقية على ضفاف المحيط الهادي والتي تعزف فيها لأول مرة. استغرق العزف ساعتين تقريبا كان النصف الأول منهما من نصيب الموسيقار النمساوي الموهوب منذ صغره فرانز شوبرت (1797 – 1828) الذي فاقت مؤلفاته الموسيقية على 700 قطعة خلال 31 سنة من حياته القصيرة. اختارت أوشيدا سوناتا البيانو المصنفة تحت رقم 894 والمؤلفة من أربع حركات وانطلقت في عزفها من الذاكرة دون اللجوء إلى النوتة الموسيقية، فهي تحفظها عن ظهر قلب مثلما يحفظ الشاعر أبيات قصيدته وسجلتها على أسطوانة مدمجة فائقة الروعة في تسعينات القرن الماضي. القطعة طويلة ويبدو فيها شوبرت وكأنه يتحدى العملاق الذي كان يخافه وهو بيتهوفن ويخشى شبحه. غاصت أوشيدا في أعماق القطعة وأغمضت عينيها تبحث عن الحقيقة والجمال، وبدا من تعابير وجهها وكأنها انتقلت إلى عالم آخر. كان على السامعين أن يحلوا ألغاز هذه الألحان العذبة وما كان شوبرت يفكر به حين كتب تلك الأنغام التي وصفها الموسيقار الألماني الكبير شومان بأنها «أكثر أعماله سبرا وأبهة». كانت أوشيدا عظيمة من ناحية الشكل والطريقة التقنية الفولاذية لكن لسبب مجهول فاتتها براءة شوبرت رغم إنها أستاذة معترف لها في هذا الباع. انتقل الجزء الثاني من البرنامج إلى قطعة طويلة أيضا تستغرق ما يقرب من الساعة ومن أشهر مؤلفات أحد أساطين الفن الموسيقار الألماني لودفيغ فان بيتهوفن (1770 – 1827) وهي «تنويعات على لحن ديابيللي». ولهذه القطعة قصة فقد ألف الناشر الموسيقي النمساوي ذو الأصل الإيطالي انطونيو ديابيللي لحنا راقصا للفالس وبعث بنسخة منه عام 1819 لمشاهير المؤلفين الموسيقيين في عصره طالبا من كل منهم أن يكرر اللحن مع بعض التغيير على طريقة التنويعات (فارييشن بالإنجليزية). جرب ليست وغيره حظهم لكن دون اهتمام كبير أما بيتهوفن الذي عرف بجديته وحبه للتحدي فألف قطعته وضمنها 33 تنويعا لنفس اللحن واصفا إياه بأنه من «تلحين الاسكافي» وكانت النتيجة تفوق التصورات والتوقعات فقد أنقذ بيتهوفن «ديابيللي الاسكافي» ووضع اسمه في سجل الخالدين، إذ حلل اللحن البسيط إلى نغمة وإيقاع وهارموني (تناغم وتآلف الألحان) وعمد إلى تركيب كل عنصر بطريقة فذة، مستبعدا الزخرفة السطحية للنغمة بل جعلها تتطور تدريجيا بحيث لا يمكن للمستمع تذكر اللحن الأصلي. عزف أوشيدا لهذه القطعة المعقدة كان رائعا، إذ تجبرك على الإعجاب بها فهي لا تبدي الوهن بل تستمر في الانتقال من تنويعة إلى ما يليها بسلاسة منسابة وتركيز شديد ورؤية عميقة فكنا نرافق عزفها وكأننا في رحلة عاطفية ممتدة يتداخل فيها الحزن بالرقص والإثارة والقوة بل المفاجأة أحيانا. يذكر أن أول المفاجأين كان ديابيللي نفسه حين كتب إثر نشره لقطعة بيتهوفن «تأليف مبتكر مليء بالأفكار وجريء في لغته الموسيقية وأسلوب تناغمه مبني على لحن لم نتوقع أن تفوق قيمته ما وصلنا إليه الآن». ميتسوكو أوشيدا، فنانة مدهشة متمكنة من فنها وسيطرتها على آلة البيانو. ولدت قرب طوكيو عام 1948 وانتقلت إلى فيينا وعمرها 12 سنة حين عين أبوها سفيرا، ثم درست في أكاديمية فيينا الموسيقية، وكان أحد أساتذتها في مادة البيانو العازف المشهور فيلهلم كيمف، وفازت عام 1970 بالمركز الثاني في مسابقة شوبان للبيانو في وارسو ببولندا وقامت بعزف أعمال موتسارت في طوكيو، ثم بدأت في المشاركة عام 1984 مع إحدى أهم الفرق الموسيقية في العالم وهي أوركسترا برلين الفلهرمونية وسجلت مع إحدى الفرق الإنجليزية المشهورة بقيادة جيفري تيت في لندن كامل أعمال موتسارت لكونشرتو البيانو مما سمح بظهور نجمها، ومنذئذ تعاونت مع أكبر الفرق الموسيقية في العالم ومشاهير قادة الأوركسترا. قابلتها أثناء طعام الغذاء قبل حفلتها في لاهويا وكانت في منتهى اللطف والتهذيب وهي صفات معروفة لدى اليابانيين، وذكرت لي أنها اكتسبت الجنسية البريطانية وتحمل الكثير من الأوسمة التكريمية البريطانية، وحين أخبرتها أنني سأكتب عنها في جريدة عربية تصدر في لندن قالت بلهجة الإعجاب والاستغراب بآن واحد: «ستكتبون عني باللغة العربية!» ويبدو أنها لم تر مقالا عنها بالعربية حتى الآن. ملامحها اليابانية الجميلة ونظراتها توحي بشدة الذكاء والإحساس المرهف وربما الشعور بالوحدة نظرا لكثرة أسفارها. تقول أوشيدا إنها لم تحب طريقة التعليم في اليابان أثناء صغرها لأن المجتمع الياباني الشرقي المحافظ لا يحب أن يناقش المرء ما يتعلمه، بل عليه أن يقبله، وتضيف: كنت أحب الإحساس بالموسيقى التي أعزفها، إذ لا يكفي في رأيي إتقان الأسلوب الميكانيكي التقني المنجز من غير تفكير ولم أشعر بالحرية فعلا حتى انتقلت إلى لندن في الـ22 من العمر. خدم أبوها فوكيتو أوشيدا في السلك الدبلوماسي الياباني في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية ثم عاد إلى فيينا عام 1960 سفيرا لبلاده، أما ميتسوكو فقد بدأت دراسة البيانو في طوكيو وعمرها ثلاث سنوات حسب التقاليد اليابانية، وأعجبتها في ذلك الحين موسيقى موتسارت التي اقتناها والدها خلال إقامته في أوروبا، وكان يطلب منها أن تعزف لضيوفه. تقول أوشيدا: «والدي كانا يتوقعان أن أصبح ربة بيت يابانية فجلبوا لي أساتذة البيانو لكي يكونوا فخورين بي لكنهم لم يفكروا أبدا في أن أغدو عازفة محترفة على مستوى العالم». يقول عنها أحد النقاد الإنجليز: «إنها فنانة راقية تعيش داخل الموسيقى التي تعزفها»، أما هي فتقول في إحدى مقابلاتها الصحافية: «حين نطقت بألحان موتسارت في لندن في الثمانينات كنت أبغي أن يستمتع الناس بجمالها ولم يكن يهمني إن تذكروا اسمي أم لا.. المهم أن يشعروا بالأنغام في باطنهم». تركت أوشيدا سان دييغو لتعود إلى لندن هذا الشهر، حيث تقيم بشكل دائم ولديها في دارها خمس آلات لعزف البيانو، وستعزف الكونشرتو الثالث للبيانو لبيتهوفن مع أوركسترا لندن الفلهرمونية بقيادة فلاديمير جوروسكي، ثم ستنتقل إلى مونيخ بألمانيا في مايو (أيار) وبعدها فرانكفورت لإقامة حفلات موسيقية لبيتهوفن، ومن بعد ستسافر إلى أميركا الجنوبية في بوينس آيرس بالأرجنتين ثم سان باولو في البرازيل وتعود إلى نيويورك في 17 مايو وتتبعها في أوائل يونيو (حزيران) بحفل موسيقي يقوده المايسترو ديفيد زينمان في زوريخ بسويسرا. أوشيدا تعشق الموسيقى وتحب التحدي والسفر، فهي تتحدى قطع بيتهوفن الصعبة لأن تلك القطع تتحدى عازفي البيانو في أن يثبتوا براعتهم، وأوشيدا لا تعرف في قاموسها سوى المثابرة والنجاح. تعزف أوشيدا كل عام في أكثر من 60 حفلة، وتخطط منذ الآن الحفلات التي ستقيمها عام 2018 حين تبلغ السبعين وستعزف وقتها بعض أعمال الموسيقار الكبير يوهان سباستيان باخ رائد الموسيقى الكلاسيكية في القرن الـ18. حتى ذلك الموعد لا شك أنها ستطوف العالم والقارات أكثر من عشرات المرات.