×
محافظة المنطقة الشرقية

مدير شرطة منطقة مكة المكرمة يدشن ملتقى الشباب الأول للتوعية الأمنية

صورة الخبر

هو انتصار جديد للشعر يسجّله فيليب جاكوتيه بُعيد دخوله قائمة الكتّاب المخلّدين في مكتبة «لا بلياد» الشهيرة La Pleiade التي تعد من أهم السلاسل الأدبية في فرنسا، وتعني «الثريا». هي من المرّات القليلة التي يتمّ فيها اصطفاء شخصية ما زالت على قيد الحياة (هو المبدع الخامس عشر الذي يدخل لا بلياد في حياته)، ومع ذلك فإنّ اسم جاكوتيه كان متوقعاً، هو الذي لم يمنعه انسحابه شبه الكلّي من الأضواء، أن يحصد أهمّ الجوائز الأدبية ويحظى باهتمام قلّ نظيره في النقد الفرنسي والفرنكوفوني. هذا التكريم، إن صحّت تسميته تكريماً، لم يُثر حفيظة أحد من النّقاد أو المبدعين الذين وجدوا في مشروع جمع أشعاره ضمن سلسلة غاليمار الشعرية (1971)، خطوة استباقية لإدخاله إلى «لا بلياد». منذ البداية، لاقت قصائد جاكوتيه (1925) أصداء قوية، ومن ثمّ أصبح علامة بارزة في الشعر العالمي الحديث. ففي أشعاره أثيرية شفافة تخفي وراءها عملاً شاقاً يستنزف منه جهداً لا يُستهان به. وقد وسمت هذه الميزة أعمال جاكوتيه الشعرية وجعلتها مادة مفيدة لدراسة شعره الحديث، هو الذي يُقال إنّ شعره يُدرّس أكثر مما يُقرأ. وفي مقدّمة سلسة غاليمار الشعرية كتب ستاروبنسكي شهادة عميقة جاء فيها: «إننا كنّا يائسين، لا نُقابل سوى الذكرى المحطمة لما كانه الشعر، وإذا بنا نشعر أمام قصائد جاكوتيه بشيء من السحر والعرفان... فيليب جاكوتيه لا يقول أبداً ما يعتقد أنّه يستطيع قوله. هو لا يضع الحقيقة في كلمة عابرة، ولا في كلمات غامضة ومضلّلة، بل يمزج بين الحقيقة والجمل الشعرية الراقية بأسلوب ممتع وجميل». يترافق صدور الموسوعة الجديدة عن «لا بلياد» واحتفالية نقدية شهدتها الصحف السويسرية والفرنسية، وأيضاً مواقع التواصل الاجتماعي التي عبّر محبوه من خلالها بالقول: «أخيراً صار يمكننا الاستمتاع بأعمال جاكوتيه كافة في مجلّد يرافقنا أين ما كنا». ويضمّ المجلّد الضخم (1728 صفحة، لا بلياد/ غاليمار) أعمال جاكوتيه الشعرية والنثرية الكاملة وفق تسلسلها الزمني، وهو بذلك يكون السويسري الرابع الذي يُخلّد في مكتبة «لا بلياد» بعد روسو وساندرار وراموز. تنوّعت تجربة جاكوتيه الإبداعية بين الشعر والنثر والترجمة، لكنّه ظلّ - ويظلّ - شاعراً قبل أي شيء آخر، لا لنقص يُعيب تجاربه الأخرى، إنما للمكانة الخاصة التي حفرها لنفسه كشاعر معاصر. تبقى عبقريته الشعرية كامنة في توقه إلى الترفّع والنقاء أو بعبارة أخرى إلى النور الذي يلحق به كفراشة تخشى أن تُدنّسها المادة (الواقع). ويلتقي جاكوتيه في ميله هذا بشعراء الرومنطيقية الألمانية الذين ترجم لعدد غير قليل منهم، هو الذي تأثّر بكبار الشعراء والفلاسفة الألمان. لكنّ هولدرلن يظلّ الأكثر تأثيراً في روح جاكوتيه، الشاعر والإنسان. ومثلما كتب هولدرلن مرّة في إحدى رسائله: «آه، لقد أفزع العالم روحي منذ عهد الحداثة الأول وردّها لتنكفئ على ذاتها»، قال جاكوتيه ذات مرّة: «هكذا أنا، أفضّل الهرب لكي أبقى داخل ذاتي».   صراع مع القصيدة لم يكن سهلاً على شاعر يُمثّل «النموذج الانطوائي» (كما شاعره المفضّل هولدرلن)، أن يتأقلم في مجتمع حديث أخذ بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالانمساخ والتحوّل إلى سوق غدت البضائع فيها أثمن من الإنسان. فالمدن صارت أشبه بمراكز تجارية ينفصل فيها المرء عن داخله ويضيع في صخب عالم خاوٍ. وتتجلّى هذه الفكرة واضحة في كتاب «الانمساخ» الذي يعتبره جاكوتيه بمثابة عمله الإبداعي الأول على من كل ما كتبه سابقاً، شعراً ونثراً. لم يكن موقف جاكوتيه من انعكاسات الحرب أدبياً فقط، بل إنه آثر أن يطلّق حياة المدن طلاقاً لا رجعة عنه، لعلّه يعود إلى الأصل، إلى النور. وفي عام 1953 قرر جاكوتيه (ولد في مودون - سويسرا) أن ينتقل مع زوجته الفنانة التشكيلية آن ماري هاسيلير إلى الريف الفرنسي في غرينيان، في منطقة «الدروم» (جنوب فرنسا الشرقيّ)، وما زال فيها حتى الآن. إنّ سفر الجسد من المدينة إلى الريف أطلق لدى جاكوتيه جماح القلب والخيال معاً، فحقّق للروح سفرها المنتظر. كأنّ هذا المكان الذي اعتبره جاكوتيه «مكانه الأول» قد ولّد لديه مغامرة البحث والتجاوز. وإنّ أول ما أخذ الشاعر في البحث عنه هو «سرّ القصيدة». كيف تولد الكلمات؟ من أين تهبط على صاحبها؟ كيف ينظمها؟... هذه الأسئلة التي غالباً ما تقابلها أجوبة شعراء «متعاظمين» لا ينفكون يتكلمون عن وحي وإلهام، نعثر لها على أجوبة مغايرة تماماً في قصائد جاكوتيه. فهو يخلع قناع الشاعر النرجسي ليصوّر أحاسيس شاعر متواضع يرتعد أمام الورقة البيضاء ويعصر مخيلته لكي يستخلص منها صورة أو كلمة. يأخذ بقارئه إلى دركات الظلام في نفس الشاعر لينقل إليه تفاصيل صراعه مع القصيدة لحظة ولادتها المتعسّرة. لم يصل جاكوتيه إلى مرحلة يعلن فيها نرجسيته كشاعر، بل كان يرى إلى نفسه شاعراً يزداد جهله كلّما ازدادت معرفته، وهذا ما يقوله في قصيدته الشهيرة «الجاهل»: «كلّما هرمتُ ازددتُ جهلاً/ كلّما عشت غدا تملكّي أقلّ وتسيّدي قليلاً/ كلّ ما عندي ليس سوى فضاء يغزوه/ تارةً الثلج والنور طوراً، لكنّه أبداً لا يُسكن/ أين هم يا ترى: الواهب، القائد، الحارس؟/ ألبثُ في غرفتي وألوذ أولاً بالصمت». كتب جاكوتيه كثيراً عن نضال الشاعر مع قصيدته، لأنه عمل طوال حياته في الشعر كحرفي يجتهد ويتعب ويعرق بغية «صناعة» قصيدة لا تشوبها زيادة ولا نقصان. شكّل «شُغل» الشاعر، أو ما نسميه نحن «فنّ النظم»، تيمة متكررة ومنفردة في شعر جاكوتيه. فهو يصف حال الشاعر لحظة التجلّي، أو الكتابة. يستفيض بوصفه وهو يذوي أثناء اشتغاله على بناء قصيدة، وهو ينتزع الكلمات من روحه ورأسه، ما يُخلّف فيه ألماً شديداً. وفي إحدى قصائده، يتناول صاحب «البومة الصمعاء» صراعه كشاعر مع قصيدته لحظة تشكلّها، فيشبّه الكتابة بفعل الحرث، معتبراً أنّ الجهد والمقدرة والمشقّة هي أوجه بينهما. فالشاعر يحفر في عقله كحارث في أرض بور، لعلّه يقلب أفكاره كما تقلب الأرض ظهر المجنّ. وتتضّح هذه الصورة أيضاً في قصيدة جميلة له في عنوان «شغل الشاعر»، يقول فيها: «لا يقوم صنيع نظرة تَهن ساعة بعد ساعة/ لا في الحلم ولا في تشكيل الدموع/ لكنّ السهر مثل راعٍ ومناداة/ ما قد يضيع لو تدركها الغفوة»...   لغة مقتصدة فيليب جاكوتيه شاعر مهموم بالقضية الشعرية نفسها، وهذا ما نلمسه في «مختاراته» التي انتخب قصائدها بنفسه، وأرادها أن تكون موجزة ودالّة على محطات متعددة في رحلته الشعرية الطويلة. ويبقى المشترك فيها «هو نبرة الشاعر الهادئة التي ليست سمة فطرية، إنما ثمرة عمل مضنٍ ونضال دائم بينه وبين نفسه»، لئلا تكون قصائده تائهة بين نبرة خطابية ولغة معقدة. لكنّ هذا التقشف اللغوي لم يكن يوماً دليل نقصٍ في موهبته الإبداعية، أو قصراً في نَفَسه الشعري، إنما هو صيغة فنية جمالية قلّما نجدها في قصائد أخرى. وهذا ما يؤكده الشاعر العراقي كاظم جهاد الذي قدّم وترجم «مختارات» جاكوتيه إلى العربية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999. يكتب جاكوتيه بدقة رهيبة وطاقة مركزة تمنحان كلّ كلمة في قصائده وزناً وقيمةً. إنّه شاعر ينحت قصيدته نحتاً، لكنه يختار أن يُلبسها ثوب الوضوح والبساطة. فقصائده، على عكس قصائد الشاعر الألماني سيلان مثلاً، بمجملها واضحة ومُتاحة، بحيث تُشغّل مخيلة القارئ وتطبع أمام عينيه الصور، بلا فذلكة أو تضليل. «أسير/ في حديقة من جمر نديّ/ تحت ملجئه من ورق الأشجار/ مع جمرة لاهبة على الفمّ». يُثري جاكوتيه قصائده بعناصر الطبيعة كالأرض والزرع والغيوم والجبال، والأهم بـ «عناصر الحلم» (عنوان كتاب أصدره عام 1961 عن دار غاليمار). لم تلتصق تيمة الحلم بأشعار جاكوتيه فحسب، إنما في نثره أيضاً، بخاصة في كتابه «عناصر حلم» الذي استوحى موضوعته الرئيسية من «الإنسان بلا صفات» للروائي روبرت موزيل. ولا يخفي جاكوتيه مدى تأثره بهذا الكتاب الذي رافقه سنوات من حياته كـ «صديق حميم». وفي «عناصر حلم» أراد جاكوتيه أن يبحث، كشاعر وكفيلسوف، عن ذاته، وعن أسباب تُبقيه حيّاً، وعن حلول تجعله يتمسك بحياة مهددة بخطر الموت. يستحضر في الكتاب أيضاً وجوه نساء بعيدات، رقيقات، نقيّات.... وجوهاً أنثوية تتقاطع وتأملاته. لكنّ حلم الشاعر الأكبر يظلّ هو المستحيل، الحلم الذي لا يتحقَّق. تنوعت موضوعات جاكوتيه الشعرية من المرأة إلى الحبّ فالطبيعة والصفاء، لكنّ لغته تظلّ موضوعاً جوهرياً في كل قصيدة يكتبها، لأنّه شاعر عرف كيف يطوّع اللغة العادية ويستخلص منها لغة مختلفة عن السائد في الشعر الفرنسي، ما جعله يستحقّ لقب الشاعر المبتكر عن جدارة. شعر