هذا هو عنوان الجلسة الحوارية الأخيرة لـ «منتدى الجزيرة» الحادي عشر، الذي عقد يومي 15 و 16 من الشهر الجاري لمناقشة «أزمة الدولة ومستقبل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط». وفيما يلي ملخص لأهم الأفكار التي في مداخلتي: «الشرق الأوسط» مصطلح أوروبي النشأة، قصد به الترويج لإيحاءات سياسية تدور حول فكرة عدم تجانس تلك المنطقة إثنياً وحضارياً. وتجنباً للدخول في جدل عقيم حول دلالات هذا المصطلح، أود أن أوضح منذ البداية أن منطقة «الشرق الأوسط» تتشكل، في تقديري، من ثلاثة مكونات مختلفة: - الأول عربي: يتشكل من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وهي دول تجمع بين شعوبها روابط مشتركة ويضمها إطار مؤسسي واحد. - الثاني إقليمي: يتشكل من الدول التي تحيط بالعالم العربي، وهي إيران وتركيا وإسرائيل. - الثالث عالمي: يتشكل من القوى الكبرى المتواجدة في المنطقة بقواعدها العسكرية وشركاتها ومصالحها والمتنافسة على النفوذ فيها. يفترض أن يكون المكون العربي، بحكم ما يملكه من موارد بشرية ومادية هائلة، هو قلب هذه المنطقة ونواتها الصلبة والأكثر تأثيراً على توجهاتها ومستقبلها. فتعداد العالم العربي هو حوالى 400 مليون نسمة، أي أكثر من ضعف عدد سكان تركيا وإيران وإسرائيل مجتمعة، ومساحته تتجاوز 13 مليون كلم مربع، أي ما يقرب من سبعة أضعاف مساحة هذه الدول الثلاث مجتمعة، ويحتوي على ثروات طبيعية ضخمة. غير أن ما يجري على أرض الواقع يؤكد أن المكون العربي هو الأضعف في معادلة القوة في المنطقة. أما السبب فيعود إلى ما يعانيه من اختلالات هيكلية تجعله دائم الانقسام على نفسه، وغير قادر على حشد وتوظيف إمكاناته بما يخدم مصالحه العليا، وأصبح أكثر عرضة للاختراق الخارجي واشتعلت في العديد من أجزائه حروب بالوكالة. وهذه المشكلات كلها ما هي سوى عوارض لمرض تجسده أزمة بنيوية مزدوجة سببها استبداد وفساد بعض الأنظمة الحاكمة، من ناحية، وصراع مفتعل بين الهويات، من ناحية أخرى. ولا تزال الدولة الوطنية في العالم العربي محشورة بين تيارات تسعى الى تجاوزها، تارة باسم القومية وأخرى باسم الدين، وكانت النتيجة بداية تفكك وانهيار الدولة الوطنية في العالم العربي قبل أن يتمكن أحد من إقامة «دولة عربية موحدة» أو «دولة خلافة إسلامية». ولأن العالم العربي ما زال يفتقر إلى قيادة قادرة على انتشاله مما هو فيه، يبدو أنه سيظل مفعولاً به في المنطقة لفترة طويلة قادمة. أما المكون الإقليمي فيبدو في وضع مختلف. فنحن إزاء ثلاث دول مركزية، لكل منها إرادة واحدة تقرر، وعقل واحد يفكر، ومشروع إقليمي خاص. اثنان من هذه المشاريع الإقليمية الثلاث، هما المشروعان الإيراني والتركي، نبعا من صلب المنطقة ومن قلب تفاعلاتها، لكنهما يختلفان عن بعضهما على رغم مرجعيتهما الإسلامية. فالأول يطرح نفسه كمشروع يمثل الإسلام الراديكالي المناهض للهيمنة الغربية والمقاوم للتغلغل الصهيوني، بينما يطرح الثاني نفسه كمشروع يمثل الإسلام الوسطي المعتدل الذي يمكن الغرب قبوله والتعايش معه واستخدامه كجسر للتواصل مع الشرق، كما يمكن لتركيا توظيفه كأداة لإعادة إحياء الخلافة العثمانية بنكهة معاصرة. ومع ذلك فهناك من يرى في المشروع الإيراني مشروعاً فارسياً يتخفى وراء الإسلام، أو مشروعاً طائفياً يتخفى وراء المقاومة ويسعى الى اختراق العالم العربي والتمدد داخله عبر الأقليات الشيعية، وهناك أيضاً من يرى في المشروع التركي أداة لاستعادة الهيمنة على العالم العربي تحت شعار الخلافة. أما المشروع الثالث، وهو المشروع الصهيوني، فهو مشروع عدواني توسعي بطبيعته، تم تصميمه وفرضه على المنطقة من خارجها، ويرتبط عضوياً بالقوى الغربية. وهو مشروع لم يكتمل بعد وما زال يتمدد كل يوم على الأرض وبات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه في إقامة دولة يهودية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات. لذا كان وما زال وسيظل يشكل الخطر الأكبر ليس فقط على العالم العربي وإنما على العالم الإسلامي ككل، خصوصاً أن مستقبله وأمنه يرتبطان عضوياً بتفتيت المنطقة إلى كيانات طائفية، وهو ما يجري الآن فعلاً. العلاقة بين المشاريع الإقليمية الثلاثة الطامحة للهيمنة على منطقة «الشرق الأوسط» ليست واضحة. فالمشروعان التركي والإيراني قد يكونان متنافسين، لكن الصدام بينهما ليس حتمياً بالضرورة، والعلاقة بين المشروعين التركي والصهيوني قد لا تكون ودية بالضرورة، خصوصاً في ظل سيطرة «حزب العدالة والتنمية» في تركيا لكنها ليست متصادمة دائماً بالضرورة، ومن ثم فليس من المستبعد أن يتمكن هذان المشروعان في المستقبل من العثور على صيغة للتنسيق أو للتكامل وتوزيع الأدوار. أما العلاقة بين المشروعين الإيراني والصهيوني فهي تصادمية بطبيعتها وتكاد تكون علاقة صفرية فعلاً. وأياً كان الأمر فلن يكون بوسع أي منهما تحقيق كامل أهدافه إلا بالاعتماد المطلق على قوة عظمى تتبناه. لذا يبدو أن المكون الدولي هو الأكثر تحكماً في مقدرات المنطقة وتأثيراً في مستقبلها. من المعروف أن منطقة «الشرق الأوسط» ظلت لفترة طويلة موضوعاً للصراع بين القوى الأوروبية المتنافسة للحصول على مستعمرات خارج القارة إلى أن توافقت بريطانيا وفرنسا على اقتسام النفوذ فيها إبان الحرب العالمية الأولى. ومن المعروف أيضاً أن بريطانيا ألقت بثقلها كله وراء المشروع الصهيوني وتولت رعايته إلى أن مكّنته من تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 على جزء من أرض فلسطين. ومع تراجع النفوذ الأوروبي في العالم، وظهور نظام ثنائي القطبية تقوده قوتان من خارج أوروبا، راح المشروع الصهيوني يحكم شباكه تدريجياً حول الولايات المتحدة إلى أن تمكن من التغلغل في معظم مفاصل صنع القرار فيها. وقد حاول التيار القومي بقيادة عبدالناصر الاستفادة من التنافس بين القطبين الكبيرين لتخليص العالم العربي من آثار التبعية، لكنه سرعان ما تلقى ضربة إسرائيلية موجعة عام 1967 أدت إلى انهياره لاحقاً. ومن المثير للتأمل بأن الصراع بين القوتين العظميين على النفوذ في المنطقة، والذي وصل ذروته قبيل حرب 1973، بدأ يحسم تدريجياً لمصلحة الولايات المتحدة بعدها. وكما كان انغماس الاتحاد السوفياتي في شؤون الشرق الأوسط هو البداية الحقيقية لصعود نجمه كقوة عالمية، خصوصاً عقب إبرام مصر صفقة الأسلحة التشيخية، كان استبعاده من عملية التسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي في أعقاب حرب 1973 هو البداية الحقيقية لأفول نجمه كقوة عالمية قبل انهياره التام عام 1990. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن عملية تفكيك العالم العربي لم تبدأ إلا في زمن الهيمنة الأميركية المنفردة، وهي العملية التي كرسها الغزو الأميركي للعراق عام 2003 ووصلت ذروتها إبان ثورات «الربيع العربي»، وبخاصة عقب تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011. لكن ما إن استعادت روسيا الاتحادية قوتها حتى قررت العودة الى المنطقة من جديد عبر البوابة السورية هذه المرة، مستغلة الانسحاب النسبي للولايات المتحدة منها، والذي كرسه الاتفاق حول برنامج إيران النووي. غير أن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتبنيه سياسة معادية لإيران ورافضة للاتفاق النووي معها أعاد خلط الأوراق في المنطقة من جديد. تراهن أطراف عديدة في المنطقة على عودة أميركية قوية اليها في عهد ترامب. غير أن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستتمكن من استعادة هيمنتها المنفردة على النظام الدولي من جديد هو مجرد أضغاث أحلام لا علاقة له بالحقائق والأرقام المجردة. فكل المؤشرات وقياسات القوة الشاملة تؤكد أن النظام العالمي يتجه نحو التعددية القطبية وأن العودة الى الهيمنة المنفردة باتت أمراً شبه مستحيل. لذا تبدو احتمالات التوافق بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب حول سبل التوصل إلى تسوية لبعض الملفات الشائكة، وفي مقدمها الملف السوري، أكبر من احتمالات الصدام. ومع ذلك فأنا على يقين من أن إسرائيل تعمل في الاتجاه المعاكس، وستستغل علاقتها الفريدة بالولايات المتحدة، والتي مكنت بنيامين نتانياهو يوماً ما من إلقاء خطاب في الكونغرس على رغم أنف باراك أوباما، لعرقلة هذا التوافق ودفع الولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية موجعة لإيران، كي تتمكن هي بعد ذلك من توجيه ضربة قاصمة لـ «حزب الله» تمهد لفتح الطريق أمام فرض تسوية بشروطها على الشعب الفلسطيني، ثم التفرغ بعد ذلك لتغيير النظام في إيران. حينئذ فقط، ربما يكون في وسع القوى الإقليمية الثلاث، إسرائيل وتركيا الأطلسية وإيران الجديدة الموالية للغرب، اقتسام النفوذ على العالم العربي بعد تشييع جنازته. هذا هو ما تحلم به إسرائيل للمنطقة، وهو حلم يبدو واضحاً أنه غير قابل للتحقيق إلا فوق جثة العرب. * كاتب مصري