د. يوسف مكيستبقى معنا آثار الحركة الاحتجاجية التي مرت بالوطن العربي، قبل ست سنوات لمرحلة طويلة، ولن يعود الواقع العربي مجدداً إلى ما كان عليه، لأن التاريخ ببساطة لا يكرر نفسه. لقد تحول كرنفال الفرح الذي عم الكثير من المدن العربية، إلى بركان مدمر، أكل في طريقه كل ما هو جميل فينا، وأحال الكثير من أبنائنا إلى وحوش ضارية تفتك ببعضها، كما هو حادث الآن في أكثر ستة بلدان عربية، تشهد حروباً عبثية أقرب إلى الحروب الأهلية. هل كان بالإمكان تجاوز هذا الحال؟ وهل فعلاً كنا على بوابات تحولات تاريخية، تعصف بمنظومات قيمنا البالية، وتقفز بنا من واقعنا العاجز والمتردي إلى اللحاق بالعصر الكوني الذي نعيش زمنه، بسلوك يبتعد عنه إلى الخلف بأرقام فلكية؟! كان هذا السؤال موضوع نقاش مكثف بيني وبين بعض الشخصيات الأكاديمية، بمدينة القاهرة، في الشهور الأولى، التي أعقبت تنحي الرئيس المصري حسني مبارك عن السلطة. الإخوة المصريون كانوا فرحين بالتغيرات السياسية التي شهدتها بلادهم. وذلك منطقي جداً بالنسبة لي، بعد حالة من الاحتقان والجمود، والتراجعات الاقتصادية، والعجز عن مقابلة استحقاقات الناس، وتجريف الحياة السياسية. لكن اختلافي كان حول توصيف ما حدث في حينه بالثورة، ومقاربة ذلك التوصيف بالتحولات التاريخية الكبرى التي شهدتها القارة الأوروبية، والتي كان من نتائجها اندلاع الثورتين الفرنسية والإنجليزية. كان اعتراضي على الإخوة الفرحين، أن ما يحدث في الوطن العربي، في تلك اللحظة هو أقرب إلى الانتفاضات العفوية. وخصوصية هذه الاحتجاجات أنها لا تعرف إلى أين تسير. شعاراتها فضفاضة، ولا تملك أي برنامج سياسي، أو حاضنة اجتماعية، ولا تقف خلفها قوة اقتصادية بأفق مستقبلي جلي. إن الانطلاقات العفوية، جاءت بخلاف التحولات الكبرى، التي حدثت سواء في القارة الأوروبية، أبان التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أثناء مقارعة الاستعمار التقليدي. فهنا لا نلحظ قيادة لأية قوة اجتماعية لهذه التحولات. فالشباب اليافعون هم الذين شكلوا العمود الفقري للحركة الاحتجاجية، متوزعون في انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية، ومعظمهم ليس له علاقة بالطبقة المتوسطة، صانعة الفكر والإبداع في التاريخ الحديث. ليس من شك، أن لهذه التطورات أسباباً موضوعية، فتجريف الطبقة المتوسطة، الذي كان نتاجاً لاتساع دائرة الفروقات بين الغنى والفقر، في البلدان العربية. وتزامن ذلك بتجريف آخر، شمل الحركة السياسية العربية بأسرها في معظم أقطار الوطن العربي، ترك الساحة خاوية، ولم يكن هناك من يملأ الفراغ للأسف سوى البطون الخاوية، التي لم يعد لديها ما تخسره. وقد نشأ معظمها في المحيط، أو في العشوائيات، بعيداً عن المركز. لم يعبد طريق الحركة الاحتجاجية، كما في أوروبا بأفكار كتلك التي أطلقها روسو ومونتيسكيو ولوك، ولم يكن هناك تحريض فولتير، كما حدث في القارة الأوروبية. ذلك كان بالتأكيد عملاً مستحيلاً، في ظل تغول الجهل والأمية وتفشي حالة التخلف، وشيوع الغربة التاريخية. لم يكن الواقع في حينه، رغم مأساويته، يحتمل كثيراً من التأويل. لكن ما حدث بعد ذلك هو أخطر بكثير. فمن كان يتصور أن ثورات الخبز والحرية والكرامة، سوف تتسبب في صراعات أهلية، وتفتيت أوطان ومصادرة كيانات؟ . في التاريخ الإنساني، حدثت انطلاقات عفوية، كما في روسيا والصين، تحولت لاحقاً إلى عمل منظم، وكان العنصر الحاسم في هذا التحول، هو وجود حركات سياسية مدنية، تلقفت الحدث، وتمكنت من توجيهه إلى الوجهة التي تخدم أهدافها وبرامجها السياسية. لكن ذلك لا ينسحب على الأوضاع في البلدان العربية، وذلك كما أسلفنا بسبب التجريفين السياسي والاجتماعي. وهكذا فإن المقدمات حين تكون بائسة فإن النتائج ستكون كارثية. إن هذه النتائج، تعيدنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الواقع العربي الآن. فقد أكدت أحداث السنوات الماضية، أن تأسيس منظمات المجتمع المدني، وإعادة بناء هياكل الدولة على أسس عصرية، ليس من باب الترف في الذهن والسلوك، بل حاجة يمليها الواقع. فالأمم التي تؤسس قواعد بنيانها على أسس صحيحة، تكون أكثر قدرة من غيرها على امتصاص الصدمات ومواجهة التحديات، والتوجه بقوة وبأمل نحو بناء المستقبل. ستكون برامجها وخططها أبعد عن الارتجال والعفوية. ولن يكون لمؤسسات المجتمع المدني، من فعل حقيقي، ما لم تكن الطبقة المتوسطة، في قلب حركته. فهي وحدها، كما أثبت التاريخ، الملهمة والمبدعة وصانعة الفكر. وحينها لن يأخذ الانتقال الاجتماعي شكل الصدمات والأزمات، بل سيتخذ شكلاً تراكمياً، يضيف قوة إلى الدولة والمجتمع، ولا يأخذ من حصتهما. نحن أحوج في هذه اللحظة التاريخية، إلى إعادة قراءة ما جرى في السنوات الست المنصرمة، ليس فقط بهدف استيعاب ما جرى وفهمه، بل لصياغة آليات الخروج من المأزق الراهن، وإعادة الروح والأمل لمسيرة الأمة، بإدراك أن الإرهاب لا يواجه باللعب في ساحته، وبذات الآليات التخريبية التي يستخدمها، والتي شهدنا نتائجها المروعة، بل يحارب بالفكر، الذي هو ليس حالة مجردة عن البناء السياسي والاجتماعي، ممثلة في التشجيع على الخلق والمبادرة، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، ومنح دور أكبر للطبقة المتوسطة. فهل ستشهد أمتنا ولادة وعي جديد، يخرجنا من نفق الأزمة الراهنة، أم أن علينا الاستمرار في تحمل المد الغاضب للإعصار؟! yousifmakki2010@gmail.com